«مقتل امرأة وأطفالها».. تحقيق يفضح «حرب التضليل» بالسودان
حرب السودان تستعر أيضا على وسائل التواصل، هناك حيث يجري نشر معلومات مضللة لتحريف الحقائق وإخراج الصور والمقاطع عن مضامينها الأصلية.
وفي ظل الحرب الأهلية الدامية التي تمزق السودان منذ أبريل/ نيسان 2023، باتت وسائل التواصل الاجتماعي تفيض بالمقاطع والصور، كثير منها مفبرك.
- فيديوهات السودان المفبركة.. الحقيقة بالأدلة
- «قطعان ماشية».. تحقيق يكشف مزاعم «المقابر الجماعية» بالفاشر السودانية
والخطير في كل ذلك أن تلك الأخبار المزيفة تؤثر في المتلقي، وتصنع لديه رؤية مغلوطة عما يحدث، والأسوأ أن فيها تحريضا ضد أطراف معينة، ما يعني أن مضمونا زائفا واحدا قادرا على توجيه غير شفاف مزاج قسم من الرأي العام سواء المحلي أو الدولي.
وفي ضوء انتشار المعلومات المزيفة من كل حدب وصوب، تحاول خدمة "تتحقق" التابعة لـ"دويتشه فيله" تقصي حقيقة المحتوى الزائف والمفبرك في عدد من المنشورات المتداولة حول حرب السودان.
*ادعاء: فيديو يدعي أن قوات الدعم السريع ترهب أما وأطفالها في السودان:
تقصي الحقائق: الفيديو مزيف
في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انتشر مقطع فيديو زعم أنه يظهر أما سودانية وثلاثة من أطفالها يرتجفون خوفا أمام جنود من قوات الدعم السريع.
وفي الـ29 من الشهر نفسه، نشر حساب على منصة إكس يصف نفسه بأنه "محلل مستقل" في الشؤون الجيوسياسية والدولية والأخبار العاجلة، فيديو.
وقال إنه يُظهر "قوات الدعم السريع وهي تُرهب أما وأطفالها في السودان"، وقد شوهد الفيديو منذ ذلك الحين حوالي 13 مليون مرة، ونال أكثر من 80 ألف إعجاب، وأُعيد نشره أكثر من 41 ألف مرة.
وفي من الشهر ذاته، تم تضمين نفس الفيديو في منشورٍ يصف سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع و"الفظائع" التي اتهمت بارتكابها بعد ذلك.
وجاء في أحد النصوص المرافقة للفيديو: "امرأة سودانية وأطفالها يتعرضون للتهديد بالقتل على يد قوات الدعم السريع"، وقد شوهد هذا المنشور ما يقرب من 30 ألف مرة.

والتقط جميل الحسن، الشخصية السورية الحاضرة بقوة على الإنترنت، الفيديو، وضمّنه في فيديو له نشره على قناته عبر إنستغرام (حيث يتابعه أكثر من 2.4 مليون شخص، وحصد الفيديو ما يقارب 450 ألف إعجاب.
وأيضا نشره عبر حسابه على منصة إكس (حيث يتابعه ما يقارب 400 ألف شخص) وحصد الفيديو ما يقارب مليون مشاهدة.
وكتب معلقا على الفيديو: "أنقذوا أهلنا في الفاشر في السودان، كونوا صوتهم العالي".
وفي النسخة التي تضمّنت الفيديو داخل مناشدته، تظهر ترجمة بالعربية تقول: "الأم كانت تحاول حماية طفلها"، وفي مناشدة استمرت خمس دقائق، ادّعى جميل الحسن عدة مرات، من دون أي دليل، أن المرأة في الفيديو قد قُتلت في النهاية.
وأخيرا، في وقت لاحق من يوم 31 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، تمت إعادة نشر فيديو جميل الحسن، بما في ذلك فيديو الأم السودانية، من قبل حساب على منصة إكس يصف نفسه بأنه "وكالة أخبار بديلة"، حيث حقق أكثر من 800 ألف مشاهدة إضافية.
*الحقيقة:
ومع ذلك، لا يُظهر الفيديو الأصلي ما تدّعيه تلك الحسابات المختلفة.
ويكشف البحث العكسي عن الصور المأخوذة من الفيديو أنه نُشر في الأصل على تطبيق"تيك توك" في 12 سبتمبر/ أيلول الماضي، أي قبل أكثر من شهر من سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، وبالتالي يتعارض مع الرواية التي قدمها على الأقل حسابان أعادا نشره.
وعلاوة على ذلك، أكّد صحفيون من القسم العربي في "دويتشه فيله" صحة بعض الحوارات المسموع في الفيديو، والتي تشير إلى أن الرجال ليسوا من قوات الدعم السريع، بل ينتمون إلى القوات المسلحة السودانية.
ولا يبدو أنهم يهددون المرأة، بل يسألونها من أين هي وما إذا كانت لها صلة بقوات الدعم السريع. فتجيب المرأة بأنها تنتمي إلى قبيلة الزغاوة، وأن قوات الدعم السريع اعتقلت زوجها.
وبينما بدت في البداية أنها ترتجف خوفا عند سماع صوت إطلاق النار، إلا أن الطلقات لا تبدو قريبة جدا، ولم تكن موجهة إليها.
وفوق ذلك، بعد نحو 25 ثانية من بداية الفيديو، تظهر يد شخص بالغ من خلف الكاميرا وتمسك لفترة وجيزة بيد الصبي الصغير بطريقة تبدو مريحة أكثر منها مهدِّدة.
وفي الواقع، يبدو أن الأم أصبحت أكثر هدوء بعد تلك اللحظة.
*ادعاء: مقتل المرأة وأطفالها
الادعاءات بأن المرأة وأطفالها قد قتلوا لاحقا لا أساس لها من الصحة ولا يمكن إثباتها.
وفي الفيديو الذي نشره الناشط والإعلامي السوري جميل الحسن، لم يكن مقطع الأم وأطفالها هو المقطع الوحيد المضمّن؛ فقد علّق الحسن أيضا على مقطع ثان يبدو أنه يظهر امرأة تحمل طفلاً صغيراً وتنكمش في خندق رملي أمام جنديين مسلحين، يظهر ظلهما في الفيديو.

ويكشف البحث العكسي عن لقطة شاشة للفيديو أن المشهد قد نُشر مئات المرات على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة خلال الأسبوع الماضي، ومع ذلك، فإن هذا المقطع مزيف بالكامل وقد تم إنشاؤه باستخدام الذكاء الاصطناعي.
الأمر لا يتعلق فقط بأن "ظلال" الجنود لا تتحرك، بل إن لون بنطال الصبي يتغير قليلا أيضا.
وإن لم تكن تلك الأدلة كافية، فإن المقطع يحتوي أيضا على العلامة المائية لصاحبه: @khoubaib.bz، وهو حساب على إنستغرام يعود إلى "خُبيب بن زيو"، الذي يصف نفسه بأنه "خبير إبداعي في الذكاء الاصطناعي".
ونشر بن زيو المقطع في 28 أكتوبر الماضي مع ملاحظة واضحة تشير إلى أنه "تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي"، لكن ذلك لم يحول دون حصول المقطع على ما يقرب من 110 آلاف إعجاب، كما لم يمنع جميل الحسن من استخدامه في مقطع الفيديو الخاص به.
السودان.. حرب التضليل
وجهت "دويتشه فيله" أسئلة لكل من جميل الحسن وخُبيب بن زيو حول ما إذا كانا على علم بأنهما ينشران محتوى غير دقيق ومولّد بالذكاء الاصطناعي. كما سألت القناة عن دوافعهما، لكنها لم تتلق أي رد.
ويقول غيريت كورتس، الباحث في شؤون النزاعات بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) في برلين، والمتخصص في منطقة القرن الأفريقي: "المعلومات المضللة تمثل مشكلة هائلة في السودان. فالثقافة الإعلامية ليست عالية بما فيه الكفاية".
ويضيف: "كما أن توفر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت في المناطق الريفية محدود للغاية".
ويبدو أن المعلومات المضللة القادمة من السودان تستهدف في الغالب العالم الخارجي.
لكن بينما تحتدم معركة التضليل الإعلامي عبر الإنترنت، فإن الناس العاديين على الأرض هم من يعانون في الواقع.
ومنذ سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور غرب السودان، انخرط نشطاء جماعة الإخوان في ترويج مقاطع مصوّرة عن "انتهاكات" لعناصر قوات الدعم السريع.
وأكدت تحقيقات أجرتها منصات مختصة في التحقق من المعلومات تكشف عن حملة تضليل ممنهجة بيد وسائل إعلام تابعة لتنظيم الإخوان بشأن ما قيل إنه "مجازر" في مدينة الفاشر السودانية.
وحذر مرصد بيم، وهو منصة سودانية مستقلة معنية بكشف التضليل الإعلامي، من انتشار مقاطع مصوّرة على منصات التواصل الاجتماعي تزعم توثيق انتهاكات في الفاشر، لكنها مولَّدة بالذكاء الاصطناعي، محذرة أنها يمكن أن يُلحق الضرر بالضحايا ويمنح الجهات المسؤولة عن الانتهاكات ذريعة للتشكيك في صحة الصور ومقاطع الفيديو.
وعمدت جماعة الإخوان — بحسب مراقبين — إلى تغذية الصراع ورفض الحلول الدبلوماسية أو مخرجات طاولات التفاوض.
وحذر مراقبون في السودان من أن النظرة الضيقة والانتهازية لجماعة الإخوان في التعامل مع الوضع في الفاشر تخاطر بتغييب الحقائق وتعطيل القدرة على المحاسبة.
وكان قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» قد أعلن أواخر الشهر الماضي تشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات الجسيمة وأعمال العنف المرعبة التي شهدتها مدينة الفاشر، واتُّهمت بها قواته، مبدياً التزامه الكامل بمحاسبة مرتكبيها وإعلان نتائج التحقيق أمام الجميع.
وقال حميدتي، الذي يرأس المجلس الرئاسي لحكومة تحالف السودان التأسيسي «تأسيس»، في خطاب عبر الفيديو، إن قيادته شكّلت لجنة تحقيق فورية لمحاسبة أي جندي أو ضابط ارتكب تجاوزات أو اعتدى على المواطنين في مدينة الفاشر، وأضاف: «اللجان القانونية وصلت المدينة وبدأت عملها بالفعل، ونتائج التحقيق ستُعلن فوراً أمام الجميع».
ولاحقا أعلنت قوات الدعم السريع، توقيف عدد من مقاتليها المشتبه بارتكابهم «تجاوزات» إبان سيطرتها على مدينة الفاشر التي كانت آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور.
والسبت، أعربت قوات الدعم السريع عن ترحيبها بزيارة لجنة تحقيق دولية لمناطق سيطرتها، وأكدت أن حكومة بورتسودان تعمدت تضليل مجلس حقوق الإنسان الأممي، وقالت إن التقارير التي نوقشت خلال جلسة مجلس حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة حول أوضاع مدينة الفاشر «لم تعكس الواقع على الأرض».
واتهمت جهات وصفتها بـ«جماعات الإسلام السياسي الإرهابية» بالوقوف وراء حملة «معلومات وفيديوهات مضللة وصور مصنوعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي»، وهو ما أكده التحقيق الحالي.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjE4IA== جزيرة ام اند امز