لم تكن زيارات الأمير محمد بن سلمان إلى معاهد وجامعات أميركية رائدة ضرباً من ضروب المراسيم البروتوكولية
لعقود طوال كان جلّ الاهتمام العربي لجهة أميركا يتركز حول أمرين: القضايا السياسية، وإشكالية صراع الشرق الأوسط، وصفقات الأسلحة.
والمؤكد أنه لا خطأ بالمرة في أن تكون واشنطن شريكاً في مآلات السياسات في الشرق الأوسط، فهي لا تزال القطب الأول والأهم، وبالقدر نفسه أيضاً لا يبخس أحد أهمية الحصول على الأسلحة الحديثة، فالحق دون قوة تحميه في مواجهة الباطل هو حق ضعيف.
غير أن شيئاً ما قد فات كثيرين تجاه ما تملكه أميركا، ولم يتم الالتفات إليه إلا لماماً: العلم والتكنولوجيا، والمؤسسات العلمية والمعاهد الفكرية، والجامعات الكبرى والعقول البراقة، والرجال العلماء والمرجعيات العلمية، وهذه جميعها قد كفلت للولايات المتحدة أن تتبوأ المكانة الأولى حول العالم في البحث العلمي، ما صنع لها السيادة والريادة حتى الساعة، على كافة الأصعدة الإنسانية.
يمكن القطع بأن زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى أميركا زيارة ممنهجة بطريقة علمية، فمن اجتياحها عالم السياسة ودوائرها النافذة في واشنطن، إلى تنقلها في آفاق العلوم والتكنولوجيا، وصولاً إلى حيز الاقتصاد، والآمال المعقودة على تبادل المنافع المشتركة.
ولعل المتابع لزيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي الأخيرة إلى الولايات المتحدة، يستلفت انتباهه الاهتمام المكثف بالطرح العلمي والمعرفي في الداخل الأميركي، سيما وأن الزيارة قد حققت نجاحات واضحة على صعيد التعاطي السياسي الخلاق مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما تجلى في الثناء على قرار خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز في تصعيد الأمير محمد إلى ولاية العهد، عطفاً على لقاءاته المثمرة مع بقية أركان الإدارة، من نائب الرئيس، ومؤسسات الدولة، من وزارة الدفاع إلى الكونغرس، ومن الخارجية إلى المؤسسات الفكرية، في طول واشنطن وعرضها.
خلال الزيارة كان التركيز واضحاً جداً على قلاع العلوم التكنولوجية؛ لا سيما جامعة «معهد ماساتشوستس للتقنية» في مدينة بوسطن، الذي يشغل المركز الأول عالمياً في مجالات عدة، كالبحوث العلمية والابتكار والتدريس، ناهيك عن دوره في إعداد الكوادر القيادية للمجتمعات العلمية.
يدرك الأمير محمد بن سلمان أن الجامعة هي المؤسسة التعليمية التي تصوغ المعرفة وتقدمها، وهي التي تبني العقول وتطور البحث لخدمة البشرية، وعليه فإنه من البديهي أن تضع الدول التي تسعى لارتقاء سلم المجد، كامل ثقلها على الجامعات، للمراهنة على المنافسة في التطور الحضاري، ويعي المسؤولون عن التعليم هذه الحقيقة، التي تتطلب المضي قدماً في التطوير، واستثمار جميع الفرص للنهوض بالعملية التعليمية.
لم تكن زيارات الأمير محمد بن سلمان إلى معاهد وجامعات أميركية رائدة ضرباً من ضروب المراسيم البروتوكولية؛ بل سعياً حقيقياً لاستنهاض الهمم العلمية في المملكة العربية السعودية، ولهذا شهد بنفسه التوقيع على أربع اتفاقيات بين ذلك المعهد الأعرق في البلاد، وبين شركتي «أرامكو» و«سابك» و«جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية» و«مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية».
حين يراهن الأمير بن سلمان على المستقبل، فإنه يتجرأ بواقعية على الأمل في أن تكون «رؤيته للمملكة 2030» رؤية تنويرية حقيقية، تقودها مشاعل العلم. ومن هنا يدرك المرء الأهمية الفائقة لرعايته لتوقيع اتفاقيات على هامش منتدى «الابتكار من أجل التأثير» الذي عقد في الـ«إم آي تي»، سيما وأن كثيراً جداً من الأفكار الجديدة والمستحدثة والواقعة خارج صندوق الطروحات المعلبة، هناك حاجة ماسة إليها عبر مشروع «نيوم»، ذلك المشروع الذي يعد وعن حق بداية لنهضة اقتصادية وإنسانية خلاقة؛ لا للسعودية فقط؛ بل لغالبية الدول المطلة على البحر الأحمر.
لعل الدرس الأول والأكثر أهمية المستفاد من جولات الأمير محمد، في الأيام القليلة الماضية، هو أنه من الحسن جداً الاطلاع على تجارب الدول المتقدمة؛ سيما تلك التي قطعت شوطاً طويلاً في التعليم الجامعي، وقدمت رصيداً متراكماً من الخبرات النظرية والإجرائية؛ بل الأهم من ذلك كله أنها قدمت نموذجاً حياً واقعياً ومعيشاً، في كيف أن العلم - كما قال الشاعر العربي - هو أحد أركان بناء الأمم، وإذا كانت أميركا تقود العالم، فإنها تفعل ذلك بعد أن أضحى العمل من أجل الصالح العام هدفاً لكبريات جامعاتها ومعاهدها، فعلى سبيل المثال ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، اتخذت جامعة «برنستون» التي هي واحدة من أرقى جامعات أميركا شعاراً، هو «برنستون في خدمة الأمة»، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا التكريس لخدمة الصالح العام جزءاً من المهمات الراسخة لكثير من المؤسسات العلمية والتعليمية في الداخل الأميركي.
يمكن القطع بأن زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى أميركا زيارة ممنهجة بطريقة علمية، فمن اجتياحها عالم السياسة ودوائرها النافذة في واشنطن، إلى تنقلها في آفاق العلوم والتكنولوجيا، وصولاً إلى حيز الاقتصاد، والآمال المعقودة على تبادل المنافع المشتركة ما بين مستثمرين أميركيين وفرص استثمارية واعدة في المملكة، فرص تتصل باقتصاد الابتكار، وتختلف اختلافاً جذرياً عن التمحور والتمركز اللذين طال بهما المقام حول الاقتصاد الريعي، المتمثل في عوائد النفط. يدرك المرء أهمية اللقاءات الناجحة مع مديرة «صندوق النقد الدولي» كريستين لاغارد، ورئيس «البنك الدولي» جيم يونغ كيم.
أفضل ما حمله الأمير محمد بن سلمان في زيارته لأميركا، للأميركيين وللعالم، رؤيته المتفائلة: «إذا قمنا بحل مشكلات الشرق الأوسط، ستصبح المنطقة أوروبا جديدة».
الخلاصة: تنهض الأمم بقدر نهضة القائمين على أحلامها.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة