محمد كامل القليوبي.. رحيل مخرج التمرد ومحطم التابوهات
1993 كان العام الذي شهد عرض الفيلم اﻷول للمخرج الراحل محمد كامل القليوبي، والذي حمل اسم "ثلاثة على الطريق" ليعلن بقوة عن مخرج مختلف.
في 1993 شهدت الشاشة الكبيرة عرض الفيلم اﻷول للمخرج المصري محمد كامل القليوبي - الذي رحل عن دنيانا، اليوم الخميس، عن عمر يناهز 73 عاماً بعد صراع مع المرض- بعنوان "ثلاثة على الطريق"، ليعلن بقوة عن مخرج مختلف عن التيار السائد في هذه الفترة، حيث كان الطابع الإنساني المغلف بوجهة نظر سياسية وفلسفية طاغياً علي أسلوب المخرج الجديد، مع مسحة يسارية كانت تشكل جانباً كبيراً من انتمائه الأيدلوجي.
كان هذا العمل واحداً من ثلاثية هامة في حياة المخرج الراحل، حيث يمكن وضعه مع (البحر بيضحك ليه) و(خريف آدم) لندرك أننا أمام حالة إبداعية خاصة جداً، ويمكن إضافة فيلم (اتفرج يا سلام) للقائمة باعتباره جزءاً من حالة عامة موجودة في هذه الأفلام.
في الفيلم الأول، من بطولة محمود عبد العزيز، سوف نرى القليوبي يقدم لنا رحلة 3 أشخاص (سائق لوري وطفل يحاول الهرب من قسوة زوجة أبيه، وسيدة، تريد الذهاب إلى صديقة لها)، وخلال رحلتهم يتعرضون لبعض الأزمات من خلال القبض عليهم واتهامهم بتوزيع منشورات، والفيلم يلمس معاناة مشتركة لطوائف وشرائح مختلفة من المجتمع في إطار بانورامي رائع، كما يقدم جانباً من العلاقة بين المسلم والمسيحي في هذه الفترة، وهو ما حاربته الرقابة لفترة وظل مبتوراً لسنوات طويلة حتى تم عرضه كاملاً في 25 يناير/ كانون الثاني 2012.
أما فيلم "البحر بيضحك ليه"، بطولة محمود عبد العزيز أيضاً، فهو تجربة أكثر نضوجاً وإنسانية، وتمتزج فيها الفلسفة بالفانتنازيا والفرجة الشعبية، من خلال "حسين" الموظف المنضبط المكبوت على المستوى الإنساني والذي يراه الجميع مجنوناً لخروجه عن النمط التقليدي، فهو المخلص النزيه المسالم القنوع، الذي يجد نفسه مضطراً للتمرد علي هذا القالب فيهجر هذا العالم الذي يقدس الروتين بما فيه زوجته القاسية المتبلدة، ويقرر أن يعيش بحرية، فيتعرف علي فتاة من عالم الموالد الشعبية، كل ذلك وهو يتابع الأحداث العنيفة التي كانت تدور في البوسنة والهرسك على الشاشة.
وتزايد رغبة "حسين" الثورية في التمرد علي الواقع الاجتماعي مع اعتقاله من خلال شقيق زوجته وتلفيق التهم السياسية له، ويقرر توجيه الصفعة للجميع خصوصاً مع دخول "سيد النُص" لعالمه هو الآخر ليبدأ رحلة صعلكة حتي الثمالة، وليصبح هذا "الفهلوي" دليله ومرشده في العالم الليلي، وفي لحظة فاصلة يشعر بطلنا أنه يولد من جديد بعد ان يتزوج "نعيمة ولعة" وينضم لأصدقاء هذا العالم الجديد، في إشارة فلسفية للتمرد والتحليق بعيداً حتى لو اضطر الإنسان للبحث عن حريته في هذا العالم المشبع بالصعلكة والمجون.
ولغة الصورة في هذا الفيلم كما في باقي أفلام القليوبي الأربعة مهمة ولها دلالتها، مثل مشهد المنتقبات الخارجات من البحر في إشارة لمحاولة البعض بالاستمتاع بحياتهم في ظل التشدد المحيط.
أما فيلم (اتفرج ياسلام) فيضيف به القليوبي بعداً وطنياً وموقفاً أخلاقياً وسياسياً يتناغم مع قناعاته، حيث نتابع 3 أصدقاء من خريجي الجامعة العاطلين عن العمل، ينجح أحدهم في الالتحاق بالعمل فى قرية سياحية بسيناء، ويعجز الثاني عن الارتباط بمحبوبته وجارته فيضطر اللجوء إلى صديقه لمعاونته للعمل في القرية، حيث ينجح في إنقاذ سائحة أمريكية عجوز من الموت بأزمة صحية طارئة، مما يرشحه للعمل فى القرية، وعندما تعود السائحة الأمريكية لبلدها تموت، ويتضح أنها يهودية الديانة، ترسل وصيتها بفاكس لمنحه ثلث التركة وقدرها 151 مليون دولار بشرط قبوله الإشراف على تنفيذ الوصية لصالح جهات إسرائيلية، ورغم فقره وضغوط مدير القرية السياحية وابنته إلا أنه يرفض الثروة حتى لا تستفيد إسرائيل.
ورغم أن هذا الفيلم – الذي تقاسم بطولته هاني رمزي وماجد المصري، يدور في قالب أقرب للكوميديا، إلا أن القليوبي يرسل من خلاله رسالته وموقفه من الأحداث خصوصاً من قضية بهذا الحجم.
نصل لذروة أعمال القليوبي من حيث الحبكة والإخراج مع فيلم (خريف آدم)، الذي رشح للأوسكار بالفعل، ولعب بطولته هشام عبد الحميد في واحد من أروع أدواره علي الإطلاق، حيث نرى قمة نضوج المخرج فنياً وفلسفياً واجتماعياً.
تدور أحداث الفيلم حول رجل يكرس سنوات عمره للثأر، من قتلة ابنه يوم زفافه، وتدور أحداث الفيلم ما بين 1948 إلى 1968، وحول المتغيرات التي تطرأ بين هذه الفترة، وفكرة الثأر التي لا تموت بمرور السنين، وهو مرثية تقطر شجناً وشاعرية حول الوطن والأحلام الصغيرة والإحباطات المتتالية، بل هو فيلم العجز العربي المختزل في مجموعة من الحكايات الصغيرة التي اتخذت الصعيد أرضية خصبة للحديث باستفاضة، وكل ذلك من خلال رواية للأديب محمد البساطي والسيناريست علاء عزام، حيث يقول القليوبي من خلال فيلمه، إن الذين يعيشون في الماضي لابد أن ينهزموا في الحاضر وأن تلك هي مشكلة العقلية العربية.
ورغم أن الفيلم يقدم قصة ثأر تبدو تقليدية في صعيد مصر، إلا أنه ينطلق منها لحكايات أخرى عن ثأر أكبر وهزيمة أعمق من نكسة 67، بينما يكشف مدى العجز على مستويات عديدة في حياتنا، لتبقى النهاية مفتوحة مع طلقات رصاص لا نرى صاحبها لكنها تنبأ بما يمكن أن يكرسه مثل هذ ا العجز الطاغي.
وفي هذه الأفلام عموماً سوف يكشف لنا القليوبي عن مدرسته الخاصة -إن جاز التعبير- في الفن وفي السياسة والمجتمع والتي كرسها برئاسته لمؤسسة "نون" للثقافة والفنون، التي تنظم مهرجان شرم الشيخ السينمائي للسينما المصرية والأوروبية، والذي قرر أن يهديه دورته الشهر القادم، حيث نرى استخدام الصورة والكلمة في التعبير عن وجهة نظره في الأحداث، ويكشف عن انحياز للإنسان في كل زمان ومكان، وكيف كان انشغاله بوحدة المصير بين هذا الإنسان وواقعه المهزوم والمحاصر بالقهر على مستويات أمنية وسياسية مختلفة، ناهيك عن حصار التقاليد التي حاول أن يثقبها القليوبي ليلقي حجراً، ويعلن التمرد كما فعل بطل (اتفرج يا سلام)، فالحل من وجهة نظره في كسر التابوه وعدم الاستسلام للمصير الذي يدفع المجتمع أبطاله نحوه.
aXA6IDMuMTMzLjEwOS41OCA=
جزيرة ام اند امز