المؤرخ محمد عفيفي: "شبرا" تلخص تاريخ مصر في القرن الأخير
حديث المؤرخ الدكتور محمد عفيفي لـ "العين"..
كتاب "شبرا" للمؤرخ محمد العفيفي يلخص تاريخ مصر في القرن الأخير
كتاب "شبرا ـ إسكندرية صغيرة بالقاهرة" للمؤرخ والأكاديمي د.محمد عفيفي، رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، كان محور ندوة خاصة عقدت ضمن فعاليات اليوم الثالث من معرض القاهرة الدولي للكتاب الـ 48.
وشارك في الندوة الكاتبة عواطف الشربيني، والكاتب الصحفي سيد محمود رئيس تحرير جريدة القاهرة، وأدارها شوكت المصري.
ويبتعد الكتاب عن جفاف الدراسات الأكاديمية الصارمة، ويعتمد على حضور المؤلف الذي يتفاعل مع بيئته، ويرصد بحسه وتكوينه وأدواته المنهجية تاريخ وتطورات الحي الذي نشأ فيه.
وأثبت عفيفي في كتابه أنه يمكن من خلال دراسة حي من الأحياء رصد تاريخ مصر كله، ودون مبالغة، تاريخ المنطقة العربية أيضا، إذا وضع في الاعتبار أنه كانت تقطن بشبرا جاليات عربية وأجنبية كثيرة.
وأثار الكتاب حالة رائعة من النقاش واستعادة حضور المدن والأحياء الصغيرة في المرويات التاريخية والسرديات المعاصرة، كما فتح الباب واسعا لموجات نوستالجيا عارمة "حنين إلى الماضي" في أوساط المثقفين والكتاب الذين عايشوا "شبرا الكوزموبوليتانية" بتعدديتها وانفتاحها وإشعاعها الفني والثقافي طوال ما يقرب من القرن، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين.
عفيفي قال لـ "العين" إن هذا الكتاب يمثل له حالة شديدة الخصوصية "فهو أهم كتبي وأقربها إلى قلبي لاعتبارات كثيرة أهمها أنني نشأت في هذا الحي وتعلمت فيه وتفتح وعيي وتكونت ثقافتي الأولى في أرجائه، فضلا عن ارتباطه بعلامات ثقافية وفنية وفكرية بارزة تجاوزت نطاقها المحلي البسيط إلى آفاق أوسع وأكبر يمكننا أن نصفها بالعالمية".
وأضاف عفيفي "شبرا هو الحي الذي ولدت فيه المطربة العالمية داليدا وعاشت فيه أزهى فترات طفولتها، وهو الحي الذي نشأ فيه شيوخ كبار للأزهر في الوقت الذي خرج منه البابا الراحل شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريريك الكرازة المرقسية.. نشأ في شبرا وعاش فيها علماء وفنانون ومثقفون ووزراء وساسة.. كل أطياف الإبداع والفن والفكر ستجدها ممثلة بشخصيات وأعلام بارزة عاشت في شبرا ونشأت في الحي التاريخي العريق".
المؤرخ البارز الذي تخصص في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وفتح آفاقا جديدة في دراسات الحقبة العثمانية، من أشهر كتبه "تاريخ الأوقاف المصرية في العصر العثماني" و"تاريخ الأقباط في العصر العثماني"، هو من أنبغ تلاميذ مدرسة التاريخ الاجتماعي.
وتتلمذ عفيفي على يد المؤرخ الراحل رؤوف عباس، وجاء كتابه عن شبرا ليسجل فصولا من التاريخ الثقافي والاجتماعي لحي مصري عريق حاز شهرة عالمية.
وبسؤاله عن أهم ما رصده من خصائص ميزت هذا الحي في كتابه، قال عفيفي:
"شبرا مرت بتحولات عميقة بدءا من اختيارها لتكون محلا مختارا لقصور الأسرة العلوية، أبناء أسرة محمد علي الكبير. شارع شبرا في الأساس هو واحد من أطول وأكبر ثلاثة شوارع مستقيمة تقطع القاهرة، طولها يصل إلى عدة كيلومترات، وهي شارع الهرم وشارع رمسيس وشارع شبرا، والأخير بالأخص تميز بأنه نمت على جانبيه حركة نشطة وسريعة وتنامى عمرانها وبدأت تتضح شخصيتها الاجتماعية والثقافية مبكرا".
وتابع عفيفي "مناطق مهمة في التاريخ المصرى الحديث، لعب فيها حي شبرا دورا بوصفه الحي الذي جمع جاليات أجنبية كانت على خلاف سياسي مع الاستعمار الإنجليزي، فشبرا اشتهرت بعيش العديد من الإيطاليين فيها، بحكم كونهم أكبر جالية إيطالية بعد اليونانيين، انتشروا فى ربوع مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، تميزت هذه الجالية الإيطالية بإنشاء المدارس سواء لخدمة أبناء الجالية في شبرا، أو حفاظا على اللغة الإيطالية، وكانت أهم المدارس الإيطالية تلك الكائنة في وسط شارع شبرا بمواجهة جامع الخازندارة، بالقرب من تمركز الإيطاليين".
وأضاف "إذن شبرا نشأت بمعنى من المعاني لتكون حيا ملكيا للتنزه وقضاء وقت طيب، وبعد زمن قصير تحولت إلى فضاء رحب للجاليات الأجنبية، وخاصة الإيطالية، وأصبحت نموذجا زاهرا للحي الكوزموبوليتاني بقيمه التي تعلي من قبول الآخر والتعايش السلمي بين أعراق وديانات ومذهبيات متعددة، وصولا إلى اعتبارها إحدى قواعد الطبقة الوسطى المصرية في صورتها المثالية".
وبسؤاله عن نموذج توضيحي لمنشأة أو مبنى في الحي القديم توضح هذه الانتقالات خلال قرن، قال عفيفي:
"مدرسة التوفيقية الثانوية على سبيل المثال، أشهر المدارس في حي شبرا، استمدت اسمها من اسم الخديوي توفيق حاكم مصر خلال الفترة من 1879 إلى 1892م. كانت هذه المدرسة في الأصل قصرا من قصور الأسرة الملكية، تم التبرع به ليصبح مدرسة حكومية، مثل الكثير من المدارس في حي شبرا الذي كان حي القصور الريفية والمتنزهات الملكية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قبل أن يصبح حي الطبقة الوسطى الصغيرة".
ولأن الكتاب يرصد تاريخ هذا الحي منذ نشأته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى اللحظة الراهنة، يتوقف محمد عفيفي بشجن كبير حول التغيرات التي ضربت شبرا في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقول:
"بدءا من أوائل السبعينيات ستتغير العلامات الثقافية والهوياتية للحي العريق، ستحدث عمليات إحلال وإبدال، وستتغير الخريطة الجينية لشبرا، تفارقها علامات ثقافية دالة لتحل محلها علامات أخرى أقل انفتاحا وقبولا للآخر، ستتبدل منظومة القيم الراسخة وتحل محلها قيم أخرى".
ويضيف عفيفي "ستختفي دور للسينما، وتهدم منازل وبيوت على طرز معمارية جميلة وخاصة لتحل محلها بنايات شاهقة تخلو من الجمال والرونق. ستغادر شبرا أسر وعائلات إلى الأطراف والمدن البعيدة، وتحل محلها تكوينات اجتماعية في غالبها تعود أصولها إلى الريف المصري. تذكرت حينما مررت ذات يوم على سينما شبرا بالاس، تحولت للأسف إلى سوبر ماركت خير زمان".