محمد الخامس.. سلطان المقاومة وبطل التحرير
نادراً ما ترى صوراً أو تسجيلات له بغير جلبابه المغربي الأصيل، قاد المغرب في عز الاحتلال الفرنسي وعمره لا يتجاوز الـ18 عاما، لكنه كان قائدا فذاً وزعيماً مُقاوماً، جاهد إلى جانب أفراد المُقاومة حتى تحررت البلاد.
إنه محمد الخامس، سلطان وملك مغربي، من سُلالة العلويين، يُناديه المغاربة بـ"أب الأمة" و"بطل التحرير"، قاوم الاستعمار وتعرض للنفي وضحى بالغالي والنفيس، دفاعا عن استقلال البلاد ووحدة ترابها وكرامة شعبها.
المقاوم ابن الثمانية عشر عاما
وُلد محمد الخامس عام 1909 بمدينة فاس المغربية، ليكون آخر أبناء السلطان المولى يوسف بن الحسن الثلاثة، تلقى تعليمه على الطريقة التقليدية. وبعد 15 سنة من دخول الاحتلال الفرنسي المملكة المغربية، تولى الحُكم وعمره لا يتجاوز 18 عاماً.
وفي الوقت الذي كان مُنتظراً تعيين الابن الأكبر للمولى يوسف خلفا لوالده، قام المُقيم العام الفرنسي عام 1972 بتعيين أصغر الأبناء، في مُحاولة منه للسيطرة على السلطان الجديد ما دام شاباً صغيراً، إلا أن العكس هو ما حدث، حيث وجدت سلطات الحماية من السلطان الشاب مقاومة قوية.
لم تنجح حيلة المُقيم العام الفرنسي، بل وكانت هي نفسها سبب هزيمة المُستعمر، إذ اصطف السلطان الشاب إلى جانب أبناء شعبه المُقاومين، ليتوحد العرش والشعب لطرد الاستعمار وتحرير البلاد، إذ كان دائم التواصل بأفراد الحركة الوطني، ما أثمر وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير / كانون الثاني من عام 1944.
ومن قلب فرنسا، وخلال دعوته في يونيو/حزيران 1945 من لدن رئيسها شارل ديغول لمحمد الخامس للاحتفال بمناسبة نهاية الحرب العالمية الثانية، جدد السلطان مطالبه باستقلال بلاده.
ليُلقي في أبريل/نيسان 1947 خطاباً تاريخياً من مدينة طنجة شمال البلاد، والتي كانت خاضعة أنذاك لإدارة دولية، شدد فيه على وحدة تُراب المملكة.
واتسمت مسيرة السلطان محمد الخامس بدعم مواقف الحركة الوطنية، كما دخل في تحد صريح للمُستعمر، وذلك من خلال رفضه التوقيع على القوانين التي تصدر شكليا باسم الملك، الأمر الذي استفز فرنسا وأعوانها بالمغرب.
نفي خارج البلاد
علاقة الرجل بسلطات الاستعمار بلغت درجة كبيرة من التوتر وصلت إلى حد محاصرة القصر الملكي بواسطة قواتها يوم 20 أغسطس / آب من سنة 1953، مطالبة إياه بالتنازل عن العرش، الشيء الذي رفضه وشعبه جُملة وتفصيلا.
عدم انصياع محمد الخامس لأهواء المُستعمر، دفع بهذا الأخير إلى نفي الملك يوم 20 أغسطس/آب 1953 في جزيرة كورسيكا ثم أبعِد يوم 2 يناير/كانون الثاني 1954 إلى مدغشقر.
وتجاوز ذلك بتعيين سُطان صوري هو ابن عرفة، الشيء الذي كان بمثابة آخر مسمار في نعش الاستعمار، بسبب الانتفاضة القوية لأبناء المقاومة ضد هذا القرار.
ومُنذ ذلك الحين، شهدت وتيرة عمليات المُقاومة المرفوقة بمُظاهرات غاضبة ارتفاعاً كبيراً، رافعة مطلب عودة الملك وأسرته من المنفى، الشيء الذي دام حوالي سنتين، قبل أن يخضع المُستعمر ويُعيد الملك الشرعي إلى شعبه يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1955.
نحو استقلال للبلاد
كانت عودة الملك وأسرته من المنفى حدثاً تاريخياً، وخطوة أولى في مُسلسل استقلال البلاد، الذي سيتحقق فعلاً في العام الموالي، إذ تم في مارس/ آذار من عام 1956 إلغاء معاهدة الحماية وبذلك حصلت البلاد على استقلالها.
وبعد الاستقلال، أصدر محمد الخامس قانون الحريات العامة سنة 1958 وأنشأ المجلس الاستشاري الذي شكل نواة البرلمان المغربي، كما شكل المجلس الدستوري الذي أعد مشروع الدستور سنة 1960.
لم تمض إلا سنوات قليلة عن تخليصه رفقة أبطال المقاومة البلاد من الاستعمار، حتى أسلم السلطان المُقاوم الروح إلى بارئها في 26 فبراير / شباط من عام 1961، وعمره لا يتجاوز 52 سنة.
لتشكل وفاته رزءاً فادحاً لحركة المقاومة والتحرير بالبلاد، وعموم الشعب المغربي، خاصة أنه كان أحد أبرز أقطاب حركة التحرر الوطني ورمزا لكفاح الشعب من أجل الظفر بالاستقلال والكرامة والتقدم.
مسيرة حافلة في خدمة الوطن، بدأت بمُقاومة المُحتل ومرت بتحرير البلاد، لتنتهي باعتماد أول دستور في تاريخ المغرب المُستقل. قبل أن يُسلم أب الأمة المشعل إلى رفيق كفاحه الراحل الحسن الثاني، الذي رسخ هذه المُكتسبات وأطلق مسيرة تنمية البلاد والحفاظ على استقرارها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ووفق نفس النهج الرصين، لا يزال وارث السر المجيد، العاهل المغربي الملك محمد السادس، يسير على نفس الدرب، مواصلاً بناء المغرب الحديث، وقيادته ليلحق بمصاف الدول الكبيرة.