السعودية تعمل على تغيير الخارطة السياسية للمنطقة العربية خصوصا والعالم عموما وبوابة للانفتاح على السياسة العالمية.
البوصلة السياسية الناجحة لا تعترف بقطب واحد بل هي التي تراعي المصالح الوطنية والقومية والإقليمية لكونها دليلا على انفتاح الدول وحيويتها وحنكتها السياسية، وما توَجُّه المملكة العربية السعودية إلى تمكين علاقاتها مع الدولة الروسية التي ظلت ردحاً من الزمن شبه منكفئة إلا برهان على عزم المملكة بالرؤى الشابة لولي عهدها الأمير محمد بن سلمان وتوجيه من الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى المضي ببلدهما نحو أفضل العلاقات مع الدول الكبرى والصناعية منها على وجه الخصوص.
لا بدّ للسعودية وغيرها من الدول من تغيير القواعد السياسية والاستراتيجية بعدم الاكتفاء بحليف واحد كالولايات المتحدة الأمريكية إلى الانفتاح على السياسات والتحالفات الدولية العالمية بما يحققه ذلك من توازنات استراتيجية من جهة وسعة أفق وانفتاح من جهة أخرى في بلورة جدية لحوار الثقافات والحضارات والسياسات وتكاملها لا صراعها، ولعل زيارة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" المرتقبة للمملكة العربية السعودية وقبلها زيارة جلالة الملك سلمان لموسكو وما وليها من زيارة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في فترة زمنية لا تتجاوز العامين خير دليل على تبديد المعادلة السياسية التي سادت القرن العشرين من تقسيم التحالفات الدولية عموماً والعربية خصوصاً بين معسكرين غربي أمريكي وشرقي روسي لتصبح المعادلة اليوم قائمة على حفظ المسافات المتوازنة بين الأطراف كافة بما ينعكس على الجوانب الحيوية في حياة الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية.
فعلى الصعيد السياسي: يمكن لهذه العلاقة أن تبدد المعادلة التي حكمت القرن العشرين من أن تكون الدولة متحالفة مع معسكر بعينه معادية للمعسكر الآخر، ومن أن تكون الدولة حليفة لفكر معين معادية للفكر الآخر، ما يعكس مدى الفهم العميق للتطورات العالمية على المستويات الفكرية والسياسة وتقلب الموازين الدولية، ففي القرن العشرين كانت كثيرة من دول العالم ومنها بعض دول الخليج العربي بحكم الواقع والظروف المحيطة تتخذ من الحليف الأمريكي الذي يمثل المعسكر الغربي الرأسمالي حليفاً وحيداً رافضة للمعسكر الروسي الاشتراكي لتباين الرؤى الفكرية بين الاشتراكية التي كانت في فترة من الفترات لا تؤمن إلا بمبادئها التي في كثير من الأحيان لا تناسب المجتمع العربي عموماً والخليجي خصوصاً ثقافياً واجتماعياً بل حتى دينياً، ما شكل تبايناً شاسعاً وصل في كثير من الأحيان إلى حد الصدام الفكري وعدم التقبل، أما اليوم فإن المعادلات تغيرت فباتت السياسة الروسية منفتحة فكرياً مدركة أن التعصب للاشتراكية دون قبول الآخر يشكل عقبة في وجه السيرورة المرنة للسياسة الدولية والعالمية، وهذا ما تمضي به السعودية اليوم من انفتاح اقتضته الحكمة والحنكة السياسية في ظل الظروف والواقع، ما يجعل التقارب السعودي الروسي بلورة لجوهر الانفتاح وتحقيق التوازنات الدولية وبوابة لحل أزمات المنطقة العربية بالحوار والسبل السياسية السلمية بعيداً عن الصدام والصراع.
على الصعيد الاقتصادي: لا يخفى على أحد بأن الواقع العالمي اليوم محكوم بالقوة الاقتصادية، فالاقتصاد اليوم هو عنوان القوة العسكرية ومنبر القوة السياسية وسبيل التطور العلمي والثقافي، والاقتصاد الناجح هو الاقتصاد المنفتح الذي لا يأبه بالخلافات الفكرية ما لم تمس الوجود، وفي ظل الانفتاح الفكري الذي يشهده العالم اليوم لم يعد هناك صوت يعلو على صوت المصالح الوطنية والقومية والسعي لبناء الدول المتطورة القوية والتقارب الروسي السعودي يعطي دفعة نوعية لاقتصاد البلدين الذين تجمعهما سيادة الطاقة العالمية، فروسيا اليوم المصدّر الأول للغاز الطبيعي في العالم، وكذلك المملكة ومن ورائها دول مجلس التعاون الخليجي التي تعد من أوائل مصدري النفط في العالم، ما يجعل تمكين العلاقات بين الطرفين أو التحالف بينهما قوة اقتصادية بل حتى سيادية في العالم أجمع باعتبارها المصدّر الأقوى للطاقة التي تحرّك العالم ذلك عدا الاستثمارات الاقتصادية الأخرى المتمثلة بفتح أسواق جديدة للجانبين على جميع المستويات الصناعية والتجارية والتكنولوجية والعقارية والسياحية، بالإضافة إلى تبادل الخبرات العلمية والمعاهدات الثقافية والتعليمية بما له من فوائد في زيادة الانفتاح والحوار الثقافي بما يتكامل مع تعزيز القوة الاقتصادية.
في الواقع نستطيع القول إنّ ما تعمل عليه الرياض يدل على تغيير الخارطة السياسية للمنطقة العربية خصوصاً والعالم عموماً وبوابة للانفتاح على السياسة العالمية دون الانكفاء على خط سياسي واحد أو ورقة سياسية منفردة يتبعه انفتاحٌ فكري وثقافي واقتصادي يجعل القضايا العربية مطروحة على طاولات السياسة العالمية بقوة
على الصعيد العسكري: الجيوش هي سياج الدول وحصنها المنيع وصمام استقرارها وعلى مدى عقود طويلة اعتمدت دول الخليج العربي على الحليف الأمريكي الذي بات اليوم أكثر من أي وقت مضى يتعامل مع حلفائه على مبدأ المصلحة الأمريكية لا المصلحة المشتركة للحلفاء والأمثلة كثيرة للتصرفات الأمريكية ولا سيما في عهد إدارة الرئيس "ترامب" كتعاملها مع العراق وتركيا والأكراد إلا أن السياسة السعودية والخليجية كانت مدركة لمثل هذه التقلبات على مستوى الحلفاء، فعملت منذ زمن على إعادة ترتيب الأوراق التي اتضحت اليوم من خلال جني ثمارها مع الدول الكبرى باستعداد روسيا تزويد المملكة بالسلاح الذي يقوي ترسانتها العسكرية ويمكنها من مواجهة التهديدات التي تترصدها.
في الواقع نستطيع القول إنّ ما تعمل عليه الرياض يدل على تغيير الخارطة السياسية للمنطقة العربية خصوصاً والعالم عموماً وبوابة للانفتاح على السياسة العالمية دون الانكفاء على خط سياسي واحد أو ورقة سياسية منفردة يتبعه انفتاحٌ فكري وثقافي واقتصادي يجعل القضايا العربية مطروحة على طاولات السياسة العالمية بقوة لا مجرد ملفات إعلامية تتلى على المنابر، ثم تعود إلى الرفوف دون أي جهد جدي من السياسات العالمية لحلها، كما تجعل من الرؤية العربية رؤية قوية تؤخذ بعين الاعتبار وتراعى مصالحها، حيث لا تُفرض عليها رؤى الحليف القوي الأوحد، ما يجعل المملكة العربية السعودية في تقاربها مع روسيا بوصلة السياسة العربية المنفتحة لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة وإنقاذ ما تبقى من المشروع العربي ككل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة