في حي شبرا، حيث تلتقي الأزقة الضيقة بأحلام واسعة، وُلد نعيم في مدينة كبيرة تتنفس من روحه وتقتات على نظراته للسماء، ولد كما تنبت مشاعرنا كجزء من قصة أكبر.
كان نعيم ابن عدلي، الرجل الذي قضى عمره في صراع داخلي مع نفسه، ومع الحياة التي تفرض عليه قيودًا وتحديات لم يكن يحلم بها. كان يحمل في قلبه أعباء الواقع، بينما كانت عيناه تسرح في عالم بعيد، حيث يطمح أن يكون له مكانٌ آخر.
عدلي، أن تقف عاريا من نفسك
كان عدلي، المدرس في مدرسة حكومية، مثالاً للرجل الذي يعايش تضاريس الحياة الصعبة. لم يكن بوسعه أن يبتعد عن هذا الواقع الذي يسحق طموحاته يوماً بعد يوم.
كان مثل شجرة، تجذرت في الأرض دون أن تتمكن من الوصول إلى السماء. كان يواجه كل صباح بوجهه الكئيب التحديات التي فرضها عليه العمل، الذي لا يمنح أي أمل في التغيير.
بينما كان عدلي يحرص على تعليم ابنائه ما تعلمه من كتب، ويشدد على ضرورة الصدق والعمل الجاد، كان يتغاضى عن الأخطاء الصغيرة في حياته الشخصية.
ومع تقدمه في العمر، أصبح يراوده شعور متزايد بأن الدين، الذي كان يشبع به حياته اليومية، أصبح مجرد طقوس تؤدى دون أن تمس قلبه.
كان يرى الناس من حوله يتظاهرون بالتدين، لكنهم في النهاية ينقضون على الآخرين في خفاء.
وإلى جانب هذا التدين الشكلي، كانت معاناته في رغبته في تحسين وضعه الاقتصادي دون أن يعرف كيف يفعل ذلك.
في النهاية، تحولت قناعاته إلى نوع من الاستسلام، وقررت الحياة أن تجعله يواجه نفسه عاريًا من كل أمل، ضائعًا بين حلمه بأن يكون شيئًا أكبر وبين الواقع الذي لا يرحم.
نعمات، البحث عن الروح بطرق أخرى
كان هذا الصراع في قلب عدلي دائمًا ما ينعكس على حياته الأسرية. زوجته، نعمات، كانت دائمًا هناك، تقف في الصف الأول لمواجهة كل تحدٍ.
لم يكن لها من مظهر مميز سوى وجهها المرهق من العمل اليومي، لكن قوتها الداخلية كانت لا تقارن. كانت تشدّ على يده في كل مرة ينهار فيها، وتعيد له الأمل حين يظن أن الحياة قد فقدت معناها.
كانت تعتقد أن الكتاب هو الطريق الوحيد للنجاة، وكانت تحلم بأن يقرأ ابنها نعيم ما قرأته هي من كتب قديمة تعلمت منها كيف تكون قادرة على العيش بالرغم من كل شيء.
ولكن، مثل عدلي، كانت نعمات تقع في فخ "التدين الشكلي". كانت تصلي وتقيم العبادات كما يجب، لكنها لم تجد في ذلك الأمان الذي كان يجب أن تلمسه في قلبها.
كان الدين بالنسبة لها نوعًا من الوقاية الاجتماعية، تحافظ به على مظهر الأسرة السويّة أمام المجتمع، لكن بين جدران منزلها، كانت الروح تبحث عن معاني أخرى.
الجدة، صمت بلون الفقر
أما الجدة، فكانت رمزًا للحكمة الصامتة. جلست في زاوية غرفة الجلوس تتأمل الحياة بعينين شاخصتين، لسانها دائمًا مضموم، لكنها في مواقف قليلة كانت تقول جملًا تشبه الألغاز.
لم يكن أحد يعرف على وجه اليقين ماذا كانت تعني بكلماتها، لكنها كانت تعرف، أكثر من أي شخص آخر، أن الحياة لا تعطي من يسعى إليها دون ثمن.كانت تعي تمامًا أن الدنيا لم تكن تمنح الفقراء إلا مرارة الحلم، فكانت تصمت، تاركة الجميع يغرق في أوهامهم.
نوسة، حاملة الأمل المستحيل
أما الأخت الكبرى، "نوسة"، فقد كانت الشخصية الأكثر تعلقًا بالأمل. كانت تميل إلى العيش في عالم من الأحلام التي لن يتحقق منها شيء.
كان لديها نوع من المثالية لا يفهمه أحد. كانت تحلم بالهروب من واقعها البائس إلى عالم آخر، ربما من خلال الزواج أو الهجرة إلى الخارج، لتجد مكانًا يحقق لها الرغبات التي كانت تسكن روحها.
في كل مرة كانت تلتقي بنعيم، كانت تضع في قلبه بذرة الأمل. لكنها كانت، هي نفسها، محاصرة بالأحلام التي لا يمكن أن تتحقق، بين جدران بيت صغير في شبرا، وفي سعيها المرهق لتحقيق شيء كان يبدو دائمًا بعيد المنال.
نعيم، حينما تكون الحياة أكبر من حلمك
كان نعيم يحاول أن يلمس حلمه، رغم كثافة الضباب الذي يحاصره. كانت عيون والده، الذي أصبح أكثر تأملًا في الحياة، وعينا أمه التي كانت تحمل في قلبها حبًا يفوق قدرتها على التحمل.
كان نعيم يعيش في صراع مع ذاته، يشاهد في مرآة الواقع صورة مُحرفة عن حلمه الطفولي. يصرخ بتمرد في وجه النظام الأبوي، الذي حاول أن يفرض عليه قيودًا، لرفضها بعناده الجميل.
كان في قلبه رغبة دفينة في التحرر، ولملم شجاعته في ظل هوسه بالسينما، تلك الأرض الطاهرة التي ضمّت بين جنباتها كل ما كان ينقصه في واقع أسرته المليء بالقيود.
السينما لم تكن مجرد شغف عنده، بل كانت حلمًا متجسدًا، ملاذًا مقدسًا، يعيد له شيئًا من الحرية التي سُلبت منه. كان يرى في تلك الوجوه التي تظهر على الشاشة قديسين، في تذاكر السينما أداة لخلاصه، وصكوك غفران تعيد له حقه في الحياة.
وفي بوسترات الأفلام التي زخرت بها جدرانه، مثل "القاهرة 30" و"معبودة الجماهير"، كان يلمس بيده تلك الأحلام الهاربة من بين أصابعه، محاولةً لخلق عالم بديل، عالم يغني عن الألم ويحمل له الأمل في غدٍ بعيد.
aXA6IDE4LjIyNS4xNzUuMTc0IA== جزيرة ام اند امز