"سالباتييرَا".. شبح لوحة صامتة
لم يكن الرسام "الأخرس" يعلم أن جداريته ستثير كل هذا الصخب والضجيج بعدما يودعها للعالم ويغادره.
لم يكن الرسام "الأخرس" يعلم أن جداريته ستثير كل هذا الصخب والضجيج، بعدما يودعها للعالم ويغادره.. لم يكن يعلم أنه يدوّن مصائر آخرين لمجرد بوحه بألوانه على سطح القماش.
هذا الرسام الأخرس هو "خوان سالباتيرا"، الفتى الصغير ذو الـ9 سنوات الذي نجا من حادث خطير، بعد أن سقط من على ظهر الخيل الذي كان يمتطيه، ففقد قدرته على النطق ثمنا لنجاته بعمره، وفي عمر الـ20 بدأ يدون يومياته رسمياً، وبات مشدوها بالريشة واللون، أما اللوحة فقد اختار ألا تكون ورقاً، وانحاز للقماش المسترسل، لفائف قماش لا نهائية، أفرد عليها سيرته وشجونه وأحلامه.
مارس سالباتييرا الرسم بشكل يومي، حتى أنه عندما بلغ الـ60 كان قد أنهى لفائف قماش بطول 4 كيلومترات بدون إطار أو تحديد 60 لفافة، أورثها لعائلته التي تفرغت لحل ألغازه المدهشة، يغوصون في رموز وشخوص رحلته.
رواية "سالباتيرا" لصاحبها الأرجنتيني بيدرو ميرال، واحدة من روايات الأدب اللاتيني التي حققت رواجاً كبيراً، وأخيراً أصدرت دار "الكرمة" للنشر القاهرية ترجمتها بالعربية التي أنجزها مارك جمال.
تحيلك الرواية ،183 صفحة، إلى سلسلة من الأسئلة التي تتتبعها مع ابن سالباتيرا الأكبر ميغيل، الراوي الرئيسي للرواية، وشقيقه لويس، رحلة جمعهما لأعمال والدهما التي كانا يؤمنان بوجوب الاحتفاء الفني والتاريخي بها، فتفرغا لهذا العمل الشاق، وفوجئوا آنذاك أنه لا يوجد في المخزن الذي كان يرسم فيه والدهما إلا تسعًا وخمسين لفافة مُرقمة بتاريخ السنة التي أنجزها فيها، وفى رحلة البحث عن اللفافة الناقصة التي تعود لعام 1961 تدور الأحداث وتعج الرواية بالحركة.
عزلة
"يعود أصل هذه الأسطورة التي تُنسج حول شخصية سالباتييرا إلى صمته" يقودك المؤلف بيدرو ميرال منذ بداية الرواية إلى هذا السياق الصامت السري لرجل أسير حياة مجهولة يعززها خرسه وعزلته.
لم يرسم خوان سالباتييرا نفسه، لم يظهر في كيلومترات القماش التي أنجزها ولو في "بورتريه" ذاتي، اهتم برسم كل تفصيلة، رسم أبنائه ميغيل ولويس، رسم قريته، الصيادين والمراعي، تكرر ظهور الخيل الأرقش الذي سقط من فوقه وظل على مدار مشروعه الفني هاجسا لاستشعاره الخطر والضيق، رسم ابنته نائمة بعدما غرقت في النهر، هذا الفصل الأكثر إيلاماً في نفس سالباتييرا الصامت.
قبيل وفاة سالباتييرا، أوصى ابنيه بغموض عبر إيمائة بعينيه، مشيراً إلى والدتهما، وهي الوصية التي يفهم منها الابنان أنها توصية تقليدية للعناية بوالدهما بعد وفاته، ويفهم القارئ نفس التفسير للوصية، حتى تتورط في رحلة بحث تثبت لك أنهما لم يفهما وصية الأب جيداً.
تكشف الأحداث أن وصية الأب ترتبط بلفافة القماش المفقودة التي تنصب أحداث الرواية في البحث عنها تستمد قيمتها من أنها اللفافة الناقصة التي بدونها لن يكتمل عمل سالباتييرا، كانت كقطعة الدومينو التي لا يمكن أن تصطف اللعبة بفقدها.
تكتشف من تتبع مسار ميغيل ولويس أنك تلهث وراء لغز الأب نفسه، يصبح البحث عن سر لوحة عام 1961 هو همك أنت أيضاً، وهو ما نجح فيه بيدرو ميرال حقاً.
عدم اكتراث
العمل الفني الهائل لسالباتيرا اكتمل بحقائق اكتشف فيها ابنيه عالماً خفياً لوالدهما، عالم دارت رحاه بين الأرجنتين والأوروجواي، يكتشف الأخوان أسراراً عائلية لم تكن تخطر على بالهما بعد عثورهما على اللفافة الناقصة، التي روّت سر والدهما عام 1961 الذي كان يخفيه عن والدتهما.
بطلتا تلك الحياة السرية هما عشيقة سالباتييرا أوخينيا روكامورا، وكذلك عشيقته الأخرى المرأة السوداء التي أنجب منها طفلاً غير شرعي، وفي هذا الوقت فقط فهما تفسير وصية والدهما بإيماءاته نحو والدتهما، وهو: أن يحتفظا بهذا السر للأبد إذا اطلعا عليه، حفظا لمشاعر زوجته التي عاشت معه طيلة العمر ولم تعلم عن عشيقاته شيئاً.
لم يكن سالباتيرا مهتما بمسألة الاعتراف به كفنان أثناء حياته، كان لا يعير مسألة الاعتراف تلك اهتماماً، يروى عنه ميغيل "أعتقد أنه كان يتصور قماشه شيئاً شخصياً أكثر مما ينبغي، كيوميات حميمية أو كسيرة ذاتية مصورة، ربما كان سالباتيرا بسبب خرسه، في حاجة لأن يروى ذاته لذاته، أن يحكي لنفسه عن تجربته في جدارية متواصلة، كان سعيداً برسم حياته، لم يكن بحاجة لأن يظهرها".
لم يكن تلقي ميغيل ولويس لعمل والدهما العملاق بنفس القدر من عدم الاكتراث، كانا مصممين على تكريم وتخليد عمله ومنجزه الفني الهائل، واستمرا في مخاطبة مؤسسات تدعم نقل هذا العمل من مخزن والدهما المهجور لتراه الأعين، ما جعل فقدان لفافة عام كامل أمر شديد الإزعاج بالنسبة لهما، لاسيما أنه من المستحيل أن يكون والدهما قد توقف عن الرسم لعام كامل "مقارنة بمجموع العمل، كان الجزء المفقود يشكل نسبة لا تذكر، إلا أنني كنت أرغب في العثور عليه، لأن تلك الفجوة كانت تُشعرني بالضيق، تلك القفزة التي تتخلل عملا بهذا القدر من الاستمرارية". يقول ميغيل .
استقر عمل سالباتييرا في نهاية مطافه في متحف رويل بأمستردام، ورغم مشقة وثمن هذا النقل الذي تكبده أبنائه، إلا أن عدم إيفاء المتحف بالمبلغ المستحق للعمل كان يزعج ميغيل، ومع ذلك انحاز لرغبة ابنه "حفيد سالباتيرا" لزيارة المتحف ومشاهدة عمل جده، وإذا به يشغل جداراً كاملاً في إحدى القاعات "تنبعث منها أضواء مفعمة بالحركة، كمعارض الأحياء المائية، تمر على شاشة في حجم القماش نفسه بدقة".
مرّت اللوحة أمام ميغيل فنسى كل المشقة والمخاطر التي مرّ بها في رحلة تجميع اللفافات "لاحظت كيف يمر الزائرون ويجلسون على الأريكة الموضوعة بطول الجدار لمشاهدة اللوحة حيناً، الآن يمكن أن يراها الجميع، لا بأس بما حققناه أنا ولويس في نهاية المطاف، رأيت وجوه الزائرين ترتسم عليها ابتسامة دهشة في حضرة صور سالباتييرا الغربية وضيائه وألوانه"، ويتابع "رأينا الأسماك ودوائر المياه المرسومة على ما حسبناه ختام اللفافة الأخيرة من اللوحة تلتئم على أكمل وجه مع دوائر المياه والأسماك في البداية التي رسمها سالباتييرا وعمره لم يتجاوز الـ20 عاماً".
وصلت رواية "سالباتييرا" للقائمة الطويلة لجائزة أفضل كتاب مترجم، وقائمة الترجمات المتميزة لمجلة "وولد ليتراشر توداي" World literature today و"قائمة أفضل كتب لجريدة" "نيو ريبابليك" New republic، ومن بين اللغات التي ترجمت لها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والتايلندية والتركية.
ولد الكاتب الأرجنتيني بيدرو مايرال عام 1970، ونشر ديوانه الشعري الأول عام 1996، وصدرت روايته الأولى “ليلة مع سابرينا لوف” عام 1998، التي حازت جائزة “كلارين” المرموقة، وتحولت إلى فيلم عام 2000.
أما مارك جمال فهو مترجم مصري يترجم عن الإسبانية، صدر له "النسيان" للكاتب الكولومبي إكتور اّباد فاسيولينسى، وديوان "عشرون بطاقة بريدية" للشاعر الدومينيكاني فرانك بايس.