فى زمننا الحالى تشهد الترجمة طفرة غير مسبوقة أدت إليها العولمة وسرعة انتقال السلع والأشخاص وكذلك تقدم وسائل الاتصال والميديا الحديثة.
من المعروف أن الفلسفة مازالت تطرح نفس الأسئلة التى طرحتها من عشرات القرون، وهذا معناه أنها لا تقدم إجابات حاسمة بشأنها، كما أنها لا تملك أن تنحيها جانباً وتحرر البال من إلحاحها. الأسئلة واحدة والإجابات متنوعة ومختلفة ومتجددة بحسب السياق والزمان. الأمر نفسه يحدث مع الترجمة، فالأسئلة التى تشغل بال المترجمين اليوم هى نفسها الأسئلة التى كانت تشغل بالهم منذ ألفى عام. ومهما قرأ المترجم من إجابات راقته أو إرتاح إليها، فأنه أمام كل عبارة يجد هذه الأسئلة تفرض نفسها عليه من جديد. سمعنا كلنا بشأن الترجمة عن التوتر التقليدى بين الأمانة والخيانة. أو كما جاء فى القول الإيطالى المأثور أن كل ترجمة لنص هى خيانة له. وبالطبع لا أحد يريد أن يكون خائناً، ولكن نقل الكلام بأمانة قد يطيح بمعناه، الإخلاص الحقيقى يكون لروح النص لا لجسده. لالمترجم فى حرصه على أن يكون أميناً للنص فإنه ربما يضطر إلى أن يخفى أو يقوم بتهميش بعض الكلمات أو التعبيرات لكى ينقل إلى اللغة المستقبلة كلاماً مفهوماً، أى أن الحرص على الأمانة هو الذى دفعه إلى الخيانة. وكتب الشاعر الفرنسى بول فاليرى إلى أحد أصدقائه، يقول له: أوصيك بالوضوح ولا أوصيك بالدقة.
أما الفيلسوف الألمانى شلايرماخر فقد طرح معضلة جديدة. فى بداية القرن التاسع عشر، شرع فى ترجمة محاورات إفلاطون من اليونانية القديمة إلى الألمانية، وكان يعتقد أن ترجمة محاورات إفلاطون أمر مفيد لألمانيا فى مشروعها للنهضة وتجاوز تخلفها عن مثيلاتها فرنسا وإنجلترا، فتساءل: هل ينبغى عليّ، أثناء الترجمة، أن أستدعى أفلاطون من اليونان القديمة ليعيش معنا واقع ألمانيا ومشكلاتها، أم أن عليّ أن أصطحب القاريء الألمانى لكى يعيش فى عصر أفلاطون القديم؟ كل إختيار له تبعاته على عملية الترجمة واختيار المفردات اللغوية المناسبة. ومال شلايرماخر إلى الاختيار الثاني.
لاشك فى أن لكل نص أصلى بحسب تصنيفه المعرفي، سواء كان علماً طبيعياً أو تاريخاً أو قانونا أو فلسفة مشكلاته الخاصة وهى التى نطلق عليها عادة قضية المصطلح. إذ كيف ينقل المترجم مصطلحاً علمياً من لغة إلى أخرى بحيث يبرز أمام القارئ كمصطلح وليس لفظاً تائهاً فى وسط مفردات اللغة العادية. وحين يكون المترجم إزاء النص المقدس أوالشعر لا توجد مشكلة المصطلح ورغم ذلك فالصعوبة أكبر، إذ تمثل هذه النصوص تحد لا يقدر على التصدى له إلا كبار المترجمين، والذين بعد أن ينجزوا مهمتهم يظل لديهم شعور دائم بأنهم، برغم جهدهم، لم يحققوا ما كانوا يطمحون إليه.
هذه هى هموم المترجم المتجددة والمتكررة مع اختلاف العصور والثقافات. وتوجد مشكلات من طبيعة أخرى حينما نتصدى للترجمة بصفة عامة بوصفها ظاهرة ثقافية. فدراسة تاريخ الفكر تبين لنا أن الترجمة كانت هى المحرك الأساسى ونقطة الانطلاق فى كل مشروع للنهضة الحضارية. ويوجد مثالان مهمان لتوضيح هذا الأمر: المثال الأول هى حركة الترجمة التى شجعها الخليفة المأمون فى العصر العباسى حينما طلب من المترجمين السريان ترجمة كتب العلم والفلسفة من اليونان ومن مدرسة الإسكندرية إلى العربية. وقد أدى ذلك إلى إزدهار العلم العربى فى مجالات الرياضيات والكيمياء والبصريات حيث بدأت إسهامات العرب بتعليقات نقدية كانوا يكتبونها على هوامش الرسائل العلمية المترجمة عن اليونانية.
والمثال الثانى ظهر حين أدرك بعض المستنيرين فى أوروبا فى العصور الوسطى أنه لا مجال للخلاص من ظلمات الجهل إلا بنقل علوم العرب.
فى زمننا الحالى تشهد الترجمة طفرة غير مسبوقة أدت إليها العولمة وسرعة انتقال السلع والأشخاص وكذلك تقدم وسائل الاتصال والميديا الحديثة وأيضاً الميل لتكوين إتحادات سياسية إقليمية تضم بلادا مختلفة فى ثقافاتها ولغاتها.
كل هذا جعل الترجمة جزءً أصيلاً فى المشهد العالمى المعاصر، وزاد من أهميتها. التحدى الذى يواجه كل ثقافة الآن هى ألا تضيع وتندثر أمام هجوم العولمة الكاسح، ولكن مقاومة هذا الزحف لن تنجح بالإنغلاق على الذات ولكنها تنجح من خلال التطوير المستمر وانفتاحها على الثقافات الأخري، ولن يتم كل ذلك إلا بواسطة الترجمة.
كل هذه القضايا مطروحة للتداول والنقاش فى الملتقى الدولى للترجمة الذى يعقده المركز القومى للترجمة بالتعاون مع لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة.
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة