كثيرا ما يوجه الكاتب كلامه للقاريء مع أنه فى الحقيقة يوجهه لمسئول كبير، يطمع الكاتب فى الحصول على رضاه.
كلنا يعرف المثل المشهور «الحرب خدعة»، ولكن من منا خاصة من الكتاب، مستعد للاعتراف بأن «الكتابة أيضا خدعة»؟ الذى يقول إن الحرب خدعة يقصد أن الانتصار فى الحرب لا يعتمد فقط على النجاح فى تجييش الجيوش، وتزويدها باللازم من الأسلحة، ولكنه يعتمد أيضا على النجاح فى إيهام العدو بغير الحقيقة، فيظن مثلا أن جيشك أضعف أو أقوى مما هو فى الواقع، أو أنك ستهاجمه ليلا، بينما تنوى مهاجمته فى الصباح، أو من الشرق وأنت تنوى مهاجمته ليلا أو من الغرب..الخ.
ولكن الذين يشتغلون بالكتابة، خاصة فى الصحف والمجلات، من أجل أن يظفروا بالشهرة أو المال، كثيرا ما يلجأون أيضا إلى إيهام القاريء بغير الحقيقة، وهذا الخداع له طرق أكثر جدا مما قد يظن القاريء، واكتشافها ليس دائما أمرا ميسورا.
من الطرق البدائية للخداع فى الكتابة، والتى يسهل اكتشافها، أن يستخدم الكاتب لقبا فخما، يقرن به اسمه، دون أن يكون قد حصل على هذا اللقب بالفعل، أو أن ينسب نفسه إلى جامعة محترمة فى دولة كبيرة، دون أن يذكرنا بالضبط ما الذى كان يفعله فى هذه الجامعة أو الدولة، ولكن هناك طرقا للخداع أخطر من هذا جدا.
كثيرا ما يوجه الكاتب كلامه للقاريء مع أنه فى الحقيقة يوجهه لمسئول كبير، يطمع الكاتب فى الحصول على رضاه، أو أن يذكر فى مقال بعد آخر ما يوحى بأنه على صلة حميمة بكاتب عظيم أو زعيم خطير، دون أن يكون لدى القاريء وسيلة للتحقق من وجود هذه الصلة، مع وجود ميل طبيعى لدى القاريء لافتراض أن كل ما سمح بنشره وظهر مطبوعا فى صحيفة واسعة الانتشار، هو على الأرجح صحيح.
من الكتاب من اكتشف، مع طول خبرته فى الكتابة والنشر، أن كثيرا من وسائل الإعلام يهمها توافر بعض الشروط الشكلية فى الكلام أكثر مما يهمها صدق الكاتب أو كذبه، فهى ترحب بالكاتب أو المشترك فى حوار تليفزيونى «المستعد دائما» أيا كان الموضوع الذى يطلب منه الكلام فيه، لهذا تجد هذا الكاتب أو المتحدث موجودا بكثرة على صفحات الجرائد وعلى شاشة التليفزيون، إذ استقر لدى المسئولين عن الجريدة أو البرنامج التليفزيوني، أن الأمر سيبدأ وينتهى دون إثارة مشكلات.من أساليب الخداع أيضا فى الكتابة، وزادت مؤخرا فى وسائل الإعلام الحديثة، تظاهر الكاتب بالعلم بالموضوع الذى يطلب الكلام أو الكتابة فيه، رغم أنه قد يكون متخصصا فى موضوع مختلف تماما، وفى مجتمع يكثر فيه الأميون وأنصاف المتعلمين، يصعب على المستمع أو المشاهد التليفزيونى أن يقرر بالضبط مدى استحقاق المتكلم أن يعتبر «خبيرا استراتيجيا»، وأن يميز بين الحصول على الدكتوراه فى علم عنه فى علم آخر. والمذيع الذى يدير الحوار قد لا يكون أقدر على هذا التمييز من الجمهور، أو قد يكون قادرا ولكن حرصه على تقديم برنامجه قد يمنعه من الاستعانة بالمختصين أو القادرين الحقيقيين على تناول الموضوع.
اكتشف بعض الكتاب أيضا، أن معظم الناس يقبلون على قراءة المقالات التى لا تثير الكثير من التفكير، ولا تجلب الهم، كالمقالات التى تتكلم مثلا عن مضار التدخين، أو عن زواج أميرة جميلة مشهورة، أو عن شيء يتعلق بحادث مأساوى اهتم به الجميع..الخ، ومن مزايا الكتابة فى هذه الموضوعات أنها تمكن الكاتب من تجنب الكتابة فى الموضوعات الشائكة التى يحتدم عليها الجدل وتثير العواطف، فيتخذ الكاتب شعبية الموضوع عذرا للبعد عن هذه الموضوعات الشائكة، يختلف الكتاب بالطبع فى درجة حساسيتهم لما تجدر الكتابة فيه فى أى ظرف من الظروف، وما لا تجوز الكتابة فيه فى مثل هذه الظروف، هناك المستعد دائما للكتابة فى أى موضوع مادام يحقق له منفعة ولو كانت مجرد السلامة، ولكن هناك أيضا من يفضل السكوت المطبق إذا لم يستطع التعبير عن نفسه، وقد يفضل الهجرة من البلد كله، هذه الهجرة الخارجية أو الداخلية (كما كان يوصف سكوت المعارضين فى الاتحاد السوفيتى فى أثناء حكم ستالين)، عرفناها فى مصر أيضا، بدرجات مختلفة فى الستين عاما الأخيرة، فهاجر بعض المعارضين إلى الولايات المتحدة أو أوروبا أو إلى دول الخليج، ومن بقى منهم فى مصر ولم يفضل السكوت المطبق لجأ إلى الأدب الرمزي، أملا فى أن ينجح فى توصيل رسالته للناس دون أن يتعرض للعقاب.
كان من أكثر كتابنا استعدادا للتعبير عن معارضته خلال السبعينيات والثمانينيات يوسف إدريس، الذى قال صراحة فى بداية السبعينيات إنه لا يستطيع الاستمرار فى كتابة القصص، التى جلبت له كل هذه الشهرة فى العقدين السابقين، وهو يرى الأحوال السياسية تتدهور على ذلك النحو، أو على حد تعبيره: هل يمكن لمن يرى بيته يحترق أن يجلس ويكتب قصصا؟ كانت النتيجة أن اتهم يوسف إدريس بنضوب الموهبة، ولكن الأرجح أن موهبة يوسف إدريس كانت من النوع الذى يحتاج توهجه إلى حماس لقضية سياسية أو اجتماعية، كما جلب له ذلك غضب السلطة فمنعت عنه الجائزة التى يستحقها حتى مرضه الأخير.
الخداع فى الكتابة أصبح أكثر انتشارا مما نظن، فعلى أغلفة الكتب الآن، حتى فيما تنشره أشهر دور النشر، تجد عبارات الثناء التى لا يستحقها الكاتب، ويجرى اقتطاعها من النقد المنشور فى مكان آخر، بعد استبعاد عبارات النقد، حتى توحى العبارة للقاريء بأن الناقد الشهير له رأى فى الكتاب أفضل من رأيه الحقيقي، ذلك أن انتشار النزعة التجارية قد أصاب الكتب مثلما أصاب غيرها، فاستسلمت دور النشر لهذا التيار خضوعا لضغوط المنافسة وقوى السوق.
من نافلة القول، إن الخداع لا يقتصر على الحرب والكتابة، ففى كل علاقة اجتماعية مجال محتمل للخديعة، ولكن لماذا يبدو الخداع فى الكتابة أثقل على القلب منه فى أشياء أخرى كثيرة، كالدعاية التجارية مثلا لترويج السلع، أو الدعاية السياسية لمصلحة حزب أو آخر؟ أظن أن السبب هو أننا فى الكتابة نفترض وجود التزام أخلاقى أكثر مما نفترض فى كثير غيرها من أوجه السلوك الاجتماعي، انه السبب نفسه، فيما أظن، الذى يجعلنا نستهجن الخداع فى مهنة الطب أو المحاماة. أو فى الخطاب الديني، أكثر مما نستهجنه فى الدعاية التجارية أو السياسية، فنحن نفترض أيضا فى الطبيب أو المحامى أو فى الداعية الدينى أن يكون أكثر التزاما بالمباديء الخلقية وأقل مبالاة بأى اعتبار آخر، فهل نحن يا ترى نعيش الآن عصرا بدأ فيه اهتزاز هذا الالتزام بالصدق، حتى فى الكتابة؟
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة