وكان للقرصنة الإلكترونية الروسية نفس الهدف أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو تلويث نبع المعلومات العامة،
عبَّر وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الدبلوماسية العامة، ريتشارد ستينغل، بصراحة، عن المشكلة التي تؤرقه والتي يجب أن تؤرقنا جميعًا، بقوله: «في ظل حرب المعلومات العالمية، كيف تنتصر الحقيقة؟».
فحتى وقت قصير، كانت فكرة عدم انتصار الحقيقة بالنسبة لستينغل، مدير التحرير السابق لمجلة «تايم»، ليست سوى بدعة، لكن خلال السنوات الثلاث التي التحق فيها ستينغل بوزارة الخارجية، فقد رأى عن كثب ظهور ما أطلق عليه عالم «ما بعد الحقيقة»، حيث الحقيقة قد تهيمن عليها أحيانًا بروباغندا روسيا أو «داعش».
وفي مقابلة شخصية، حذر ستينغل قائلاً: «نحبذ دومًا فكرة أن الحقيقة عليها أن تخوض النزال وحدها في سوق تجارة الأفكار. حسنًا، قد يكون هذا صحيحًا في السابق، لكن الحقيقة اليوم باتت تخسر في هذا السوق»، مضيفا: «الاكتفاء بإرسال رسائل تحوي حقائق لم يعد كافيًا لكسب حرب المعلومات».
ووجه ستينغل سؤالاً ملحًّا للصحافيين والتكنولوجيين، وعلى نطاق أوسع، لكل من يعيش في مجتمعات حرة أو يطمح إلى ذلك، وكان السؤال: كيف لنا أن نحمي النبع الأم للديمقراطية – وهي الحقيقة – من السموم التي تحيطها؟ فهي أشبه بالفيروس أو بالتسمم الغذائي، بمعنى أنها تحتاج إلى أن تخضع للسيطرة، لكن كيف؟
يجادل ستينغل قائلاً إن الحكومة الأميركية عليها أحيانًا أن تحمي مواطنيها بأن تكشف «المعلومات المفخخة، أي المعلومات المغلوطة» لتلويث النظام البيئي. لكن في النهاية يجب أن يكون الدفاع عن الحقيقة مستقلاً عن الحكومة التي لا يثق فيها أغلب الناس «إذ إن هناك خطورة متأصلة في ترك الحكومة تلعب دور المراجع والمتحقق من صحة المعلومات واعتبارها الملاذ الأخير».
دار هذا الحوار بيننا في مكتب ستينغل وبنفس الغرفة التي كان يستخدمها جورج مارشال، وزير الخارجية الأسبق، وهو أحد رموز البراغماتية في عصر العقل الأميركي. فبحسب ستينغل، مشكلات مجتمع اليوم المشبع بالمعلومات لا يمكن تخيلها بالنسبة لجورج مارشال الذي عاش في زمن كانت المعلومات فيه نادرة وثمينة قبل أن يتسبب الانفتاح في كل هذا التغيير.
وأوضح ستينغل أن مواقع التواصل الاجتماعي أعطت كل إنسان الفرصة لصياغة الواقع طبقًا لرؤيته الخاصة، مشيرًا للأيام الأولى لظهور تنظيم داعش عام 2014، عندما بث هذا التنظيم صورًا مرعبة لترويع الناس وتجنيد أعضاء جدد. وكانت جهود الخارجية الأميركية في مواجهة التطرف والحركات الراديكالية ترتكز على مبدأ «واحدة بواحدة» بالدخول مع المتطرفين في جدل حول التفسير الصحيح للإسلام، لكن الاستراتيجية الأفضل التي خرج بها المسؤولون الأميركيون هي تخويل آخرين قادرين على التعامل مع الأمر بطريقة أكثر فاعلية.
ويوضح ستينغل بقوله: «من الفطنة أن نقول إننا لم نكن أفضل المبعوثين لحمل رسالتنا؛ لأنه في عالم (ما بعد الحقيقة) نجد الناس الذين نحاول الوصول إليهم يتشككون تلقائيا في كل ما يرد من حكومة الولايات المتحدة». ومع ازدياد ضعف تنظيم داعش، ضعفت أيضًا حملته الدعائية؛ فقد تضاءلت رسائله واختفى مجندوه وتراجعت «القضية» برمتها. وعلى نفس المنوال، كانت حملة الدعاية الروسية عند غزو شبه جزيرة القرم عام 2014 أكثر براعة وأصعب مواجهة، وكان من ضمن الأسباب أن موسكو لم تكن راغبة في مواجهة الغرب وجهًا لوجه، بل إثارة الشك وانعدام الثقة داخله. ويقتبس ستينغل إحدى عبارات بيتر بورمرانتسيف، مؤلف كتاب «لا شيء حقيقي، وكل شيء ممكن.. القلب السريالي لروسيا الجديدة»، قائلاً: «بالنسبة للقيادة الروسية التي تربت في مدرسة الاستخبارات الروسية (كي جي بي)، فهي ليست حرب معلومات، بل حرب على المعلومات».
ويحلل لنا ستينغل تعمد الخلط بين الحقيقة والخيال في وسائل الإعلام الروسية، مثل قناة «روسيا اليوم» و«سبوتنيك»، فما تقولانه هو: «هم لا يحاولون القول إن روايتهم هي الحقيقة، بل يقولون إن الجميع يكذبون، وألا أحد يخبرك بالحقيقة».
وكان للقرصنة الإلكترونية الروسية نفس الهدف أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية؛ وهو تلويث نبع المعلومات العامة، «فلم يكن لهم مرشح بعينه، لكن كل ما أرادوه هو إضعاف الإيمان بالديمقراطية وبالغرب»؛ ففي عالم الدعاية الإعلامية الذي يتولى فيه كل فرد تفصيل الرواية وسردها من منظوره الخاص، فإن الاتفاق على إطار مشترك يحكم الحقيقة قد يكون شبه مستحيل. كيف يمكن للمواطنين الذين يتطلعون إلى العيش في عالم مبني على حقائق أن يواجهوا تلك الهجمة على الحقيقة؟ فقد اعتمد ستينغل برامج وزارة الخارجية التي تدرس التقارير الصحافية الاستقصائية ولا تفسح المجال إلا لمن يقول الحقيقة، لكنه على حق في أن هذا العمل ليس وظيفة العم سام.
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة