مع تجميد البرلمان الأوروبي مفاوضات العضوية مع تركيا، باتت العلاقات التركية - الأوروبية على صفيح سياسي ساخن
مع تجميد البرلمان الأوروبي مفاوضات العضوية مع تركيا، باتت العلاقات التركية - الأوروبية على صفيح سياسي ساخن، وفي انتظار قرار المجلس الأوروبي خلال قمته منتصف الشهر الجاري تتجه تركيا نحو المزيد من التصعيد الكلامي، كما هي حال تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان الذي وصف قرار البرلمان الأوروبي بأن لا قيمة له، بل وجّه انتقادات حادة لرئيس البرلمان مارتن شولتز على الهواء مباشرة، وصلت إلى درجة مخاطبته بـ «من أنت؟» على طريقة القذافي، وهو ما استدعى جملة من الردود الأوروبية، تركّزت على حملة الاعتقالات المستمرة في تركيا واعتقال النواب الأكراد والتضييق على حرية الصحافيين والإعلام.
الحكومة التركية وبدلاً من الانتباه إلى أهمية الانتقادات الأوروبية والقول إنها ملتزمة بالمعايير الديموقراطية وتبرير ممارساتها، لوّحت بالذهاب إلى الردع من خلال التهديد بالعودة إلى العمل بعقوبة الإعدام التي ألغتها عام 2004 في إطار الإصلاحات الهادفة للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وتحقيق معايير كوبنهاغن، وهو ما أثار تحذيرات أوروبية حادة من أن مثل هذا الإجراء سيكون بمثابة العودة إلى الصفر على صعيد مفاوضات العضوية. وأمام هذه الحال من الشد والجذب، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، يتعلق بدور عقوبة الإعدام في الحياة السياسية التركية.
منذ إعدام عدنان مندريس عقب الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال جمال غورسيل عام 1960، مروراً بإعدام ثلاثة من قادة الطلاب عقب الانقلاب العسكري عام 1971، وصولاً إلى موجة الإعدامات عقب الانقلاب الدموي عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان ايفرين، كانت عقوبة الإعدام في تركيا تشكل رادعاً للخصوم السياسيين، إلى أن ألغى البرلمان التركي هذه العقوبة تطلعاً إلى العضوية الأوروبية، ومخرجاً لقضية زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان بعدما قيل عن صفقة بين تركيا والولايات المتحدة، مفادها مساعدة الإدارة الأميركية لتركيا في اعتقال أوجلان مقابل إلغاء الحكومة التركية هذه العقوبة.
اليوم وبعد الانقلاب العسكري الفاشل في تموز (يوليو) الماضي وبعيداً من الحرب الكلامية مع الاتحاد الأوروبي، تصاعدت حدة الدعوات المطالبة بإعادة العمل بعقوبة الإعدام، إذ ثمة قناعة في أوساط حزب «العدالة والتنمية» ومعه حزب «الحركة القومية»، بأن إلغاء الإعدام ساعد على تصاعد وتيرة العنف والشقاق السياسي والقومي في البلاد، فضلاً عن الإحساس بتراجع مشروعية الأسباب التي أدت إلى إلغائه بعد أن اتضح لصانع القرار التركي استحالة نيل تركيا العضوية الأوروبية في ضوء تصريحات بعض القادة الأوروبيين الذين تحدّثوا عن حاجة تركيا إلى 300 سنة لتحقيق مثل هذه العضوية!
والأهم أن تركيا أردوغان تحس بأن مشروع تركيا الحضاري لم يعد محصوراً بالخيار الأوروبي، وأنها باتت تمتلك من القوة لبناء تركيا جديدة وإقامة شراكات وتحالفات وانتهاج خيارات خارج أوروبا، تبدأ من الشراكة مع روسيا وصولاً إلى التكامل مع دول الخليج العربي مروراً بالانضمام إلى منظمة شانغهاي.
بين رغبة أردوغان في العودة إلى العمل بعقوبة الإعدام لردع الخصوم ورفض الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي، ثمة جدل قانوني وسياسي يتصاعد في تركيا حول آلية العودة إلى العمل بهذه العقوبة، وكذلك حول مضمون هذا القانون إذا تم إقراره، على نحو: هل سيكون بأثر رجعي يشمل الجهات المستهدفة (جماعة غولن المتورطة في الانقلاب - زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان المعتقل في سجن اميرالي منذ 17 عاماً...)، أم أن القرار لن يكون بأثر رجعي وسيكون منصباً على المستقبل؟
وعلى المستوى السياسي والحزبي، ثمة انقسام كبير، بين حزب «العدالة والتنمية» الذي يرى في هذه العقوبة رادعاً لمنع تكرار الانقلابات العسكرية ومحاكمة عادلة لقادة الانقلاب العسكري الفاشل، وتحديداً فتح الله غولن الذي تطالب أنقرة واشنطن بتسليمها إياه، وبين رؤية المعارضة المتمثّلة بحزب «الشعب الجمهوري» الذي يمثل إرث أتاتورك وحزب «الشعوب الديموقراطي» الموالي للأكراد، فالحزبان أعلنا رفضهما العمل بعقوبة الإعدام، لا لأنهما يعتقدان أن هذه العقوبة ستكون مدخلاً لتصفية الخصوم السياسيين وردعاً للمعارضين، بل لأنهما يعتقدان أن ثمة حسابات سلطوية تتعلق باستفادة أردوغان من طرح هذه القضية للانتقال إلى النظام الرئاسي، في ظل عدم توافر النصاب القانوني لحزب «العدالة والتنمية» لإقرار هذا الانتقال من داخل البرلمان، حيث يجد الحزبان نفسيهما في موقف حرج، فبموافقتهما على إعادة العمل بعقوبة الإعدام سيخسران المزيد من الرصيد الحزبي، كما أن رفضهما سيتيح توجيه اتهامات لهما بدعم الإرهابيين والانقلابيين، وهو ما قد يضعف موقفهما في حال عرضت القضية على استفتاء شعبي كما هو محتمل وفق النسب والقوانين والقواعد التي تتحكم بعمل البرلمان.
على مستوى الخارج، من الواضح أن الرفض الأوروبي والأميركي القاطع للعودة إلى عقوبة الإعدام، سيزيد من التوتر في العلاقة مع تركيا، إذ من شأن ذلك إظهار الحكم في تركيا شعبوياً على حساب الديموقراطية والتطوّر المدني والقانوني، فيما من الواضح أن أردوغان لا يعطي قيمة لكل ما سبق في معركته ضد خصوم الداخل، بل بات يشهرها أيضاً في وجه الأوروبيين الذين ضاقوا من توغّله في الانقضاض على مؤسسات الدولة والمجتمع التركيّين، تارة باسم مكافحة الإرهاب وأخرى باسم محاربة التنظيم الموازي، وهو ما قد يدفع الأوروبيين إلى خطوات موجعة لأردوغان، لعل أول معالمها إفراج بعض الدول الأوروبية عن المعتقلين من حزب «العمال الكردستاني» في سجونها، وتصاعد الدعوات إلى رفع اسم الحزب من قائمة الإرهاب، بما يعني أن مسار العلاقات التركية – الأوروبية حافل بالمفاجآت.
*نقلاً عن "الحياة "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة