وأصبح الشرط الأساسى للنجاح الاعلامى ليس توافر الموهبة بل رضا المسئولين السياسيين. واستخدمت الجوائز الثقافية، حتى أعلاها مقاماً، لتدعيم هذا النجاح غير المستحق،
فقدت مصر خلال الشهور القليلة الماضية عددا من المشاهير فى ميادين مختلفة من الحياة الثقافية، فى الأدب والشعر والعلم والسينما والمسرح والكتابة السياسية، وقد أحدث رحيلهم ـ كما هو متوقع ـ صخبا شديداً فى وسائل الاعلام، من الثناء والتعبير عن الحزن، واشترك فى ذلك كثيرون من أصحاب السلطة السياسية، فضلا عن محاولات البعض اكتساب بعض الشهرة لأنفسهم عن طريق ذكر ما كان بينهم وبين هذا الفقيد أو ذاك من صلات حميمة ومودة.
ظاهرة المبالغة فى التعبير عن الحزن، ظاهرة مصرية قديمة، تلاحظها فى ولولة النساء عند الوفاة، حتى وإن لم تكن تربطهن بالفقيد علاقة وثيقة، بل وربما دون أى علاقة على الاطلاق. ولكن هذه الولولة فى حياتنا الثقافية حديثة نسبيا ليس من الصعب تبين أسبابها، ولكنها ظاهرة مؤسفة على أى حال، وتمثل نوعاً من أنواع التخلف والتدهور، يضاف الى سمات أخرى تتسم بها حياتنا الثقافية منذ فترة.
مازلت أذكر كيف كان تأبين علم من أعلام الأدب أو العلم أو الفن فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، أى منذ سبعين عاما. أذكر كيف رثى الأدباء ونعت الصحافة رجالاً كالشيخ مصطفى عبد الرازق، أو إبراهيم المازنى أو نجيب الريحانى، على سبيل المثال، فلا أتذكر مبالغات ممجوجة فى الثناء، أو ذكر فضائل ومزايا مشكوك فيها، بل لم يكن كاتب التأبين يعتبر من الخطأ أن يذكر، حتى بعد وقت قصير من وفاة الرجل المشهور، بعض أخطائه أو عيوبه، ولكن فى أدب.
كان المبدأ الجميل «أذكروا محاسن موتاكم»، يفسر تفسيراً عاقلا، يميز بين الشخصية العامة والأشخاص العاديين، وكذلك بين نقد مجرد عن الهوى وبين مجرد التجريح والتشهير. كما أنى لا أذكر ان كانت هناك منذ خمسين أو ستين عاما، هذه الرغبة الشائعة الآن فى التمسح بالمشاهير، والزعم بوجود علاقة حميمة مع الفقيد، لا وجود لها ولكن يصعب أيضا إثبات عدم وجودها.
الظاهرة قبيحة لأكثر من سبب. فهى تنطوى على نوع من فساد الذوق الذى يسىء إلى كاتب الثناء، وإلى قارئه، وإلى الشخص الممدوح على السواء. وهى تنطوى أيضا على تضليل من لا يعرف الحقيقة، بإيهامه بوجود ما لا وجود له، والإيحاء بأن الصفات الحميدة لا يمكن أن يقترن بها أى خطأ أو أى وجه من وجوه الضعف، فضلا عما يشيعه هذا الصخب والتطبيل والتزمير من مناخ غير صحى مساعد على انتشار مختلف الأمراض فى حياتنا الثقافية والسياسية.
سأضرب بعض الأمثلة. ممن فقدناهم منذ وقت قصير أديب مشهور، صاخب مؤلفات كثيرة، ولكن أوجه النقص فيه كثيرة أيضا وخطيرة. رفعه الإعلام بعد وفاته إلى عنان السماء، مما أصابنى بالدوار والشك فى قدرتى على الحكم على الأشياء والاشخاص، واظن أن هذا الدوار والشك قد أصابا كثيرين أيضا غيرى.
كنت قد قرأت له رواية واحدة جميلة منذ أكثر من أربعين عاما، ثم فشلت بعد ذلك، المرة بعد المرة فى أن أجد له شيئا يثير إعجابى، بل وكثيراً ما احترت حتى فى فهم مايريد أن يقول، حتى بدأت أشك فى استحقاق تلك الرواية الأولى للاعجاب والثناء، أو فى أن يكون هناك سرُّ لا أعرفه يفسر اقتران اسمه بهذه الرواية خاصة أنه شاع بعد ذلك أنه كتب رواية باسم رئيس عربى كان يحب أن يعرف عنه أنه أديب فضلا عن كونه رئيسا. مع تكرار الاشادة بهذا الكاتب والثناء عليه، حاولت أكثر من مرة أن أتحقق من صحة ما كونته من رأى فى أعماله التالية، فعدت إلى قراءة بعضها على مهل وبمنتهى الصبر، فإذا بى أنتهى إلى الشعور بالاشفاق الشديد على نفسى فأترك الرواية قبل أن أتمها.
المثال الثانى عن عالم شهير، حصل على تقدير عالمى كبير، ولكنه يثير لدى من الحيرة قدر ما يثيره الأديب الشهير، حتى بدأت تعترينى الشكوك فى الجائزة العالمية نفسها. فالرجل بمجرد حصوله على هذا التقدير العالمى لم يتوقف عن الحركة وإصدار التصريحات والظهور فى وسائل الاعلام، إلى حد توظيف مستشارين إعلاميين لخدمته والاشتراك فى التهليل له. وهو لا يمتنع، ولو من باب التواضع، عن الإدلاء بالرأى فى أى موضوع، مهما كان بعده عن موضوع تخصصه، فيأتى رأيه، فى نظرى سطحيا ومصطنعا لا يعكس معرفة حقيقية بما يتكلم فيه. وجدت فى هذا كله مسلكا لا يتفق بالمرة مع ما ينتظره المرء من عالم متفرغ لعلمه ومستغرق فى بحوثه.
ثم عرف عنه أنه قضى وقتا فى اسرائيل، قبل حصوله على الجائزة العالمية الكبيرة، وحصل منها أيضا على جائزة. فلما وجه إليه النقد لذلك قال كلمة تنطوى فى رأيى على مغالطة وهى أن «العلم لا وطن له». ربما كان العلم فعلا لا وطن له، ولكن العالم يجب أن يكون له وطن.
انظروا ما حصل عليه هذا الرجل من تقريظ وثناء بمناسبة وفاته، واحتفال الدولة كلها به، واستعدادها لنسيان كل شىء مادام الرجل قد حاز جائزة علمية على بحث علمى. وكأن كل مايحتاجه المرء عندنا لكى يحصل على تقدير شعبه ودولته هو أن يحصل على جائزة من الخارج.
لاحظت أيضا أن هذا النوع من المشهورين سرعان ماتتوقف وسائل الاعلام عن ذكرهم بعد وفاتهم، بالمقارنة بالأشخاص الذين اشتهروا عن استحقاق وجدارة، إذ تستمر ذكراهم.
هذه الظاهرة المؤسفة، الميل إلى التطبيل والتزمير فى حياتنا الثقافية إلى مايتجاوز الحد المعقول والمقبول، هى بلاشك جزء من اكتساح الغوغائية لحياتنا الثقافية نتيجة لما حدث فى حياتنا السياسية من ناحية، ولنوع التعليم الذى يتلقاه الناس فى المدارس من ناحية أخرى. وقد أدى هذا وذاك بوسائل الاعلام للاستسلام للسلطة وتملق الجماهير فى نفس الوقت. الظاهرة تؤكد ما قيل بحق من أن الأمية قد تكون أهون من التعليم السيىء، وأن نصف المتعلم قد يكون أسوأ وأخطر من الجاهل جهلا تاما. هذا النوع من التعليم السيىء، أو من شبه التعليم، انتشر عندنا واستفحل لأسباب يطول شرحها، وكان من آثاره هذه الظاهرة المحزنة، ولكن من أسباب هذه الظاهرة أيضا اختلاط السياسة بالثقافة اختلاطا مذهلا فى حياتنا منذ منتصف القرن الماضى، فأصبح من الممكن جداً للكاتب أن يحظى بالشهرة والتطبيل والتزمير، ليس بسبب رضا الناس عنه، بل بسبب رضا السلطة،
وأصبح الشرط الأساسى للنجاح الاعلامى ليس توافر الموهبة بل رضا المسئولين السياسيين. واستخدمت الجوائز الثقافية، حتى أعلاها مقاماً، لتدعيم هذا النجاح غير المستحق، وكمادة إضافية للتطبيل والتزمير. فاختلط الحابل بالنابل، وأصبح من الصعب التمييز بين من نال الجائزة بسبب رضا الناس ومن نالها بسبب رضا السلطة. وكأننا قد قررنا أن نتنازل عن حقنا فى إجراء التقييم الصحيح للموهوبين وغير الموهوبين، وتركنا هذه المهمة للتاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة