إن ترامب فيما يتأكد من نجاحه كسيد أعمال رجل مخاطر، وليس مجنوناً، لكن مخاطرته محسوبة بعناية، بما يعني أن عهده سيشهد تغيرات عميقة في أمريكا وعلى المستوى الدولي.
ثلاث استجابات غير مسبوقة أحدثتها نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية. أولاها، ردود فعل غاضبة من قطاعات في الكتلة الانتخابية المناوئة، عبّرت عن نفسها في تظاهرات وأعمال عنف. الثانية، حيرة وقلق في العواصم الأوروبية، وفي أمريكا اللاتينية انعكس في تعبيرات صريحة لرؤساء ووزراء للخارجية والدفاع، واستدعى اجتماعاً طارئاً لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي. والثالثة، ارتياح كبير في الكرملين وترحيب حقيقي، وليس بروتوكولياً فقط.
وظهر أن العالم فوجئ بالنتيجة في وجود شواهد كانت ترجحها، أغلبها تتعلق بشخصية «ترامب»، والأخرى تخص منافسته. وبالنسبة له فهو رجل مثير ومثابر لديه الكثير من التصميم والإرادة والمخاطرة، ولا ينفك، يعد الشعب بأمريكا قوية، وهو صريح لا يدعي بل يقدم نفسه كرجل أعمال ناجح دخيل على السياسة. وقد بانت عزيمته من قدرته على إزاحة سياسيين عتاة من طريقه في الحزب الجمهوري حتى اضطر «جب بوش» ابن الأسرة العتيدة إلى الانسحاب المبكر.
وبالنسبة لمنافسته فهي تفتقد الصراحة، دبلوماسية أكثر من اللازم، ومراوغة إلى حد الإفراط، وفي تاريخها السياسي كثير مما يثير الالتباس، ويخلق الظنون فيها، أنها استخدمت بريدها الإلكتروني الخاص في وظيفتها وزيرة للخارجية، وأنها تدعم «داعش» وأمثالها. ولم يكن وضع حزبها ليساعدها بعد ثماني سنوات من رئاسة «أوباما» لأن تجاوزها للحزب الواحد نادر الحدوث في تاريخ أمريكا، مع أنه ينهي ولايته برصيد في الاقتصاد معقول، ولكن بإخفاقات في السياسة الخارجية مهينة.
على أن ترامب لم يكن أوفر حظاً في هذا المضمار، إذ تخلت عنه قيادات بارزة في الحزب الجمهوري، وزادت وتبرأت من برنامجه ومن شخصه. وتصدت له وسائل الإعلام بشراسة غير معهودة، وحاول الجميع تصويره شريراً، يجب أن يُنبذ.
وعلى الخط دخل زعماء وقادة أوروبيون ضربوا عرض الحائط بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وإن كانت الدولة الأعظم. ولم يتخلف بابا الفاتيكان، فقال إنه «ليس مسيحياً من يقيم الجدران ولا يبني الجسور بين أبناء الرب». غير أنه لا القصف السياسي ولا الصلوات منعت المغامر من إفشال السياسية الداهية، وإنزال مؤسسات قياس الرأي العام من منصة السياسة إلى حظيرة التنجيم. الآن ماذا بعد فوز هذا الذي تحدى وصمم ووصل؟ ماذا يقول المحللون، وبِمَ يفكر صناع القرار؟
بعد الصدمة والذهول عاد أكثر الناس إلى رؤية المستقر في الولايات المتحدة، وهو أنها دولة مؤسسات راسخة ودستور فريد، ينظم علاقة محكمة ورقابة متبادلة بين السلطات الثلاث، وأن صناعة القرار تتم بعملية بالغة التعقيد، وأن هناك دائماً خططاً واستراتيجيات لآجال بعيدة، وفي أمريكا شبكات مصالح وجماعات ضغط، ورأي عام قوي، وفيها تراكم لا يعطي أي عهد حق القطيعة مع ما قبله. وبالنسبة لترامب فقد أعلن برنامجه، وسيمضي فيه وهو يعدل ويطور ويشطب ويتجاوز شطحات الأسوار والتسفير وإغلاق الأبواب.
إن ترامب فيما يتأكد من نجاحه كسيد أعمال رجل مخاطر، وليس مجنوناً، لكن مخاطرته محسوبة بعناية، بما يعني أن عهده سيشهد تغيرات عميقة في أمريكا وعلى المستوى الدولي. وقد يهمنا في برنامجه، مع عدم إهمال دور الطاقم الذي سيشتغل معه، والمؤثرات الأخرى، الموقف من قضايا الصراع العربي «الإسرائيلي» والعلاقة مع إيران والتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
في الموضوع الأول يجب ألّا نتفاءل كثيراً، فكأي رئيس أمريكي سيكون منحازاً ل«إسرائيل»، ولكن هذا لا يمنع أن يحاول العرب ممارسة التأثير، وقد يفيدهم بأنه رجل شجاع ومستعد للفهم، وأن مستشاره لشؤون الشرق الأوسط شخص عربي.
وفي الموضوع الآخر، يتبدى موقف الرئيس الأمريكي المنتخب شديد الوضوح، على عكس أوباما وضد كلينتون المتحمسة للإخوان والمتخفية في دعم «داعش».
إن تأثير الموقف الأمريكي المحتمل على الأوضاع المتفجرة في بعض بلدان العالم العربي، لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن العلاقة بين واشنطن وموسكو، حيث يُعتقد أنها ستذهب في اتجاه التطور والتحسن ونحو تفاهمات حول مواضيع تخصهما، وإلى تسويات في مناطق عديدة في العالم.
إن العالم أمام مرحلة ستتأثر بوجود رجل مثير للدهشة في البيت الأبيض يمكن أن يخلف أثراً كبيراً في تاريخ أمته، وفي العالم برمته، ذلك إن لم تصبه طلقة من شاب متهور يخدم منظمة سرية.
*نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة