يَهلُّ هلال شهر رمضان على المسلمين، فتهبُّ معه النفحات الإلهية، والرحمات الربانية وتتهيأ النفوس للتزكية الروحية والخُلقية، ويعيش المؤمن في هذا الشهر عيشا مرضيا لا جرم.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد : يا باغي الخير أقبل، و يا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار"
والمعنى: فتحت أبواب العبادة والسعادة والخير الموصلة إلى الجنة، فإن الجنة أعدت للمتقين، وهيئت لمن يطلبها ويسعى إليها بعمله كما قال سبحانه {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } والمراد ميراث درجاتها ومراتبها لا نفس دخولها فإنه لا يكون إلا برحمة الله تعالى، وربنا سبحانه قد كتب رحمته للمؤمنين المتقين، كما قال جل شأنه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}
وشهر رمضان هو شهر المتقين لأنه لم يشرع إلا لتحقيق التقوى لله جل وعلا كما قال سبحانه وتقدس اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتتحققوا بالتقوى، لما تكونون فيه من مراقبة الله تعالى في جميع أوقاتكم، فإن الصائم لا ينفك عن مراقبة الله تعالى في نهاره فلا يقع في محظور المخالفة من تفريط في واجب، أو وقوع في معصية، ولذلك كان جزاؤه عظيما حيث يتولاه الله تعالى بنفسه لا يكله إلى ملائكته الكرام، كما صح في الحديث القدسي المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم"
فلذلك كله كان شهر رمضان شهر السعي لمرضاة الله تعالى بأصناف العبادات، كما ينادي المنادي " يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر" وشهر التزكية الروحية والخُلقية؛ لما فيه من الصبر على الطاعة وإن كانت ثقيلة على النفس، والصبر عن الشهوات واللذات مع أن النفس داعية لها، وما فيه من كظم الغيض والصفح عن الناس، والعفو عن المسيئين، والإحسان للمحتاجين، وما فيه من تشبه بالملائكة المقربين الذين لا يأكلون ولا يشربون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون، وما فيه من إحساس بالفقراء المعوزين الذين لا يجدون ما يقتاتون، وما فيه من تهذيب النفس بالقناعة التي هي كنز الغنا، إلى غير ذلك من خصال الخير التي لا توجد في غيره، فهو شهر التسابق للخيرات والمسارعة إليها بأصناف القربات، ولذلك يفرح المؤمن بقدومه فرحه بغائب حبيب ينتظر قدومه بفارغ الصبر، فما أن يقدم عليه حتى تقر عينه ويطيب خاطره.
هذا هو شهر رمضان الذي هلَّ علينا مرحبا به، مرغوبا فيه فنعم المجيئ جاء.
ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه وأمته بقدومه حتى يزداد فرحهم وتتهيأ نفوسهم لاستقباله بنية صالحة كما روى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم خطب أمته فقال: " أظلَّكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل على المسلمين شهر خير لهم منه ، ولا دخل على المنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله يكتب أجره ونوافله من قبل أن يوجبه، ويكتب وزره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يعد له من النفقة في القوة والعبادة، ويعد المنافق اتباع غفلات المسلمين، واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن، ونقمة للفاجر " أي أن الله تعالى يكتب أجره لمن ينوي فيه فعل الخير ويتقرب إلى الله تعالى، فيجازيه الله تعالى على نيته الصالحة حتى ولو لم يتمكن من ذلك، كما أن من نوى أن يسيئ فيه جازاه الله تعالى بهذه النية السيئة وإن لم ينل ذلك، فهو حث على إصلاح النية لهذا الشهر الكريم.
وما أحسن قول الشاعر:
شهر الصيام لقد غدوت مكرما * وعلوت من بين الشهور معظَّما
يا صائمي رمضان هذا شهركم * فيه أباحكم المهيمن مغنما
يـا فوز من فيه أطاع إلهَه * متقربا متجنبا ما حرَّما
فالويل كل الويل للعاصي الذي * في شهره أكل الحرام وأجرما.
فاللهم كما بلغتنا رمضان فوفقنا فيه للصيام والقيام وتقبله منا يا رحمن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة