لابد أن ندرك أن أي تحرك برلماني أوروبي؛ إنما يتم ضمن رؤية توافقية بين الحكومات والبرلمانات.
استقبل قبل يومين، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفداً من البرلمان الأوروبي، «مجموعة الصداقة البرلمانية الإماراتية الأوروبية»، الذي يزور الدولة بدعوة من المجلس الوطني الاتحادي، وذلك للتعرف عن قرب على الجهود التي تقوم بها الدولة في المجالات الإنسانية والحضارية المختلفة، حيث زار مدينة «مصدر» الصديقة للبيئة، ومسجد الشيخ زايد (رمز التسامح)، وغيرهما من الأماكن. كما قام الوفد بزيارة لمخيم «مريجيب الفهود» في الأردن الذي يستضيف اللاجئين السوريين، وتشرف عليه دولة الإمارات، وذلك للاطلاع على الجهود الإنسانية التي تقوم بها الدولة هناك.
استضافة المجلس الوطني الاتحادي للوفد الأوروبي، وتفاعل الجهات الحكومية في دولة الإمارات مع الوفد، كل ذلك يعكس إدراكاً كاملاً لدى القيادة حول أهمية تفعيل الدبلوماسية البرلمانية باعتبارها إحدى أدوات «القوة الناعمة» للدولة.
وبلا شك، فإن نتائج هذه الزيارة ستكون مختلفة عن الصورة المرسومة أوروبياً عن الموقف العربي عموماً فيما يخص قضايا اللاجئين، وسيكون هذا التغير في الصورة العربية مبنياً على السمعة العالمية الجيدة لدولة الإمارات في مجال المساعدات الإنسانية. فهذه الزيارة ستتيح للبرلمانيين الأوروبيين الحصول على معلومات من أرض الواقع، وليس كما هو معتاد من خلال الإعلام، وبالتالي ستساهم في تغيير الكثير من المفاهيم الخاطئة عن الموقف العربي عموماً.
واللافت في الزيارة أنها تبرز نمطاً جديداً من الفاعلين في العلاقات الدولية، حيث يقوم ممثلو الشعب بدور مرغوب لتحقيق مكاسب سياسية لدولهم، ولكن يبقى الأمر حتى الآن مقتصراً على الدول الغربية فقط، خاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إلا أن استضافة المجلس الوطني الاتحادي للوفد الأوروبي وتفاعل الجهات الحكومية في دولة الإمارات مع الوفد، كل ذلك يعكس إدراكاً كاملاً لدى القيادة حول أهمية تفعيل الدبلوماسية البرلمانية؛ باعتبارها إحدى أدوات «القوة الناعمة» للدولة.
والحقيقة أن هناك رغبة لدى المجتمعات الغربية في قيام وفود برلمانية بدور حيوي في تعزيز السياسة الخارجية، وذلك كنوع من عملية توزيع الأدوار بين المؤسسات الوطنية لتلك الدول، للمساهمة في تخفيف الضغط والعبء الذي تلقاه من التزاماتها الدولية انطلاقاً من عدة أسباب، أهمها: أن الدور الذي يقوم به البرلمانيون، عادة، لا يثير حساسية سياسية لدى الدول الأخرى، ولا تلفت تحركاتهم انتباه الإعلام ولا الدول غير الصديقة، مع أن هذه الوفود قد تكون زيارتها، أحياناً، ذات تأثير أكبر من الزيارات السياسية الرسمية، وهو ما يعني في العرف الدبلوماسي أن مساحة حركة هؤلاء البرلمانيين أكبر، سواء للخوض في نقاشات عميقة، أو للتفاوض حول بناء مواقف سياسية لصالح بلدانهم. بل إن للدبلوماسية البرلمانية «خط رجعة» واسعاً وسهلاً، مقارنة بأي موقف سياسي قد يحرج الحكومات، كون الفاعلين البرلمانيين لا يحملون الصفة الرسمية للدول. ويعتبر موقف «مرزوق الغانم»، رئيس مجلس الأمة الكويتي في الاتحاد البرلماني العالمي، عندما طرد الوفد الإسرائيلي، خير مثال على اعتبار كونه لا يمثل السياسة الرسمية للكويت، مع أنه حقق تعاطفاً سياسياً كبيراً لبلاده.
وبشكل أكبر، فإن تلك الرغبة الغربية تنطلق أيضاً من فهم وقناعة بأهمية تغير مفاهيم اللاعبين الدوليين، وخاصة مع تعدد الأزمات الدولية وتعقّدها، والتي غالباً ما تثقل كاهل السياسيين في العالم، نظراً لتعدد الأزمات وتشعبها إلى درجة تنعدم عندهم قدرة التحرك والتفاعل الإيجابي معها، وبالتالي فإن الأمر يحتاج إلى من يساعد على تحريكها، وتخفيف الضغط على حكومة بلاده من الرأي العام الداخلي، الذي بات اليوم عنصراً مؤثراً في صناعة القرار السياسي للدول، لاسيما في قضايا اللاجئين والمهاجرين.
والمهم أن الوصفة الغربية في هذا الخصوص، أي قيام وفود برلمانية بجولات ظاهرها شعبي، لكنها في الحقيقة ذات طابع سياسي.. حققت الكثير من الأهداف لصالح بلدانها في مجالات كثيرة؛ مثل شرح وجهة النظر الرسمية لبلدانها حول قضية التطرف ومكافحة الإرهاب، وبناء مواقف سياسية لصالح وجهة نظرها، وقد خدمت حكوماتها من ناحية تهدئة ضغوط منظمات المجتمع المدني في بلدانها، والمنظمات غير الحكومية ذات الصفة العالمية العاملة في مجالات حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، والتي عادة ما تطالب حكومات هذه الدول بالتدخل في قضايا داخلية لدول معينة في الشرق الأوسط سببت الكثير من القلق على السلم والأمن الدوليين، بل إن تحركات هذه الوفود تلقى رواجاً من حكومات بلادها على أساس أنها (أي الوفود) تتحدث باسم الرأي العام وليس الحكومات، وهو ما يجعل مسألة التنصل من أي احتجاج في هذا الخصوص أمراً سهلاً للغاية.
لابد أن ندرك أن أي تحرك برلماني أوروبي؛ إنما يتم ضمن رؤية توافقية بين الحكومات والبرلمانات، وبالتالي يحتل الموقف الرسمي في النهاية «قوة واحدة» من الطرفين، وليس كما يبدو لنا أنه صراع بين الحكومات والبرلمانات، على الأقل في القضايا الخارجية.
المؤسف في الأمر أنه عندما تزحف الحكومات الأوروبية نحو توزيع أدوارها السياسية تدريجياً، نجد أن الدول العربية لم تستوعب بعد أهمية هذا الدور، لكن يبقى أمل الإنسان العربي في دولة الإمارات التي ترتكز على رصيد كبير، سواء في فهم التغيرات الحادثة على صعيد السياسة الدولية، أم على صعيد المنظمات والمحافل العالمية في مجال التعامل مع مفاهيم القوة، والتي أظهرت الدبلوماسية البرلمانية باعتبارها إحدى أدوات القوة الناعمة.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة