خسارة الحزب الحاكم في تايوان للانتخابات المحلية، قدمت له درسا بسيطا وثمينا: التصعيد لا يخدم غرضا. والتوترات لا تفيد.
ما حدث كان بمثابة هزة عنيفة لما ظل الحزب "التقدمي الديمقراطي" الحاكم يعتقد أنها السياسة التي يمكن من خلالها تعزيز استقلال تايوان. ولكن ابتداء من استقبال رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، إلى كل ما تبعها من توترات وضعت بكين وتايبيه على حافة الحرب، فقد ثبت أن التصعيد والتوترات لا تفيد الاستقلال النسبي نفسه.
تايوان جزء تاريخي من الصين. الانفصال بينهما نجم عن حرب أهلية اندلعت في العام 1949 عندما تمكن الشيوعيون بقيادة ماو تسي تونغ من حكم البر الرئيسي للصين، بينما انسحب أنصار النظام الجمهوري بقيادة حزب "كومينتانغ" إلى تايوان. وبالنظر إلى أن الكومينتانغ كانوا هم من قاد الجمهورية الصينية الحديثة بعد سقوط آخر السلالات الإمبراطورية في العام 1911، فقد بقي الاعتراف بسلطتهم وبتمثيلهم للصين قائما حتى العام 1972، عندما اختارت الولايات المتحدة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، أن تسحب اعترافها بهذا التمثيل لتمنحه إلى بكين.
المقايضة في ذلك الوقت انطوت على خلطة عناصر بحيث تحافظ تايوان على وضعها ككيان مستقل نسبيا، من دون اعتراف، على غرار كيانات شبه مستقلة أخرى مثل هونغ كونغ وماكاو، فلا يرقى إلى مستوى دولة مستقلة، ولا يتم إخضاعه بالقوة للالتحاق بالصين، ويحافظ على علاقات دفاعية واقتصادية مع واشنطن، ولكن من دون التزام دفاعي قاطع.
من "خلطة" المرامي المتداخلة هذه، نشأت سياسة "الغموض الاستراتيجي" التي تبنتها الولايات المتحدة. وذلك في مقابل سياسة "الصين الواحدة" التي تبنتها بكين. وهي سياسة تقصد، بالقوة أو سواها، أن تخضع كل أجزاء البلاد إلى سيادة واحدة.
ما حصل على مر السنوات الخمسين الماضية، هو أن حزب الكومنتانغ، تبنى نوعا من سياسة التعايش مع الأمر الواقع، وأن يبني على أساسه علاقات تراضي مع بكين، لعلها تتعايش معه أيضا. بمعنى أن ترضى بوجود تايوان ككيان شبه مستقل، لا يزعم أنه هو الممثل الشرعي للصين، ولا يُعلن أنه دولة مستقلة، ولا تندفع الصين إلى ضمه بالقوة. لاسيما وأن مواطني الجزيرة، البالغ عددهم نحو 23 مليون نسمة، شقوا طريقا في إدارة البلاد مختلفا تماما عن الطريقة التي تُدار بها الصين. كما نجحوا في تحويل تايوان إلى دولة ناجحة اقتصاديا، حتى أصبحت شريكا تجاريا مهما في بعض الصناعات المتقدمة.
الحزب "التقدمي الديمقراطي" بقيادة الرئيسة تساي إينغ وين، انتهج طريقا تصادميا مع بكين منذ فوزه بالرئاسة والانتخابات المحلية في العام 2020. وضع ثقته باستراتيجية الرئيس جو بايدن التي اعتبرت الصين "خصما رئيسيا" وتحديا استراتيجيا للنفوذ الأمريكي، وتهديدا لمكانة الولايات المتحدة كأكبر قوة اقتصادية في العالم.
من دون الحاجة إلى حرب في أوكرانيا تدفع إلى تقديم تنازلات على مستوى "التحدي الاستراتيجي"، فان الحرب الاقتصادية التي خططت واشنطن لشنها ضد بكين، مع معظم حلفائها الغربيين الآخرين، كان من شأنها تنتهي بصراع عنيف يزعزع استقرار "الأمر الواقع" في تايوان. فهذه الجزيرة، ليست مؤهلة لأن تكون رأس حربة ضد الصين. ولا أن تكون طرفا في صراع استراتيجي بين القوى الكبرى.
حرب واشنطن الاقتصادية اتخذت طريق بناء كتل نفوذ في جنوب وشرق آسيا. ولكن ثبت أن "الفوز" بها أكثر تعقيدا مما جرت التصورات. فالصين قوة فرضت نفسها بشراكات اقتصادية واسعة ومسبقة. وهي لم تصبح "مصنع العالم" لمجرد أنها توفر أيدي عاملة رخيصة، بل لأنها تخطت حواجز الابتكار والتطوير التكنولوجي.
الصين التي تعد الآن ثالث أكبر دولة مالكة لبراءات الاختراع بعد اليابان والولايات المتحدة، بحسب إحصاءات العام 2021، هي الدولة الأولى في العالم بعدد البراءات الجديدة. وهذا منعطف يفرض نفسه في النهاية.
سياسات العزل والتضييق التي مارستها واشنطن، قصدت أن تدفع بكين إلى الطريق الذي اندفعت إليه موسكو في العهد السوفيتي. ومجيء بيلوسي إلى تايوان، في مطلع أغسطس الماضي، كان يقصد تحويل هذه الجزيرة إلى رأس حربة.
لقد كان صنع أزمة، أمرا مقصودا. وهناك في واشنطن من كان يأمل أن تندفع الأزمة إلى اجتياح صيني لتايوان يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة من ركنين: الأول، عسكري ضد روسيا في أوكرانيا. والثاني، اقتصادي ضد الصين. فالمولعون بالحروب في الولايات المتحدة كثر.
الانتخابات المحلية في تايوان، هزمت هذا المشروع. حزب الكومينتانغ حقق تقدما انطلاقا من الدفاع عن خيارات السلام مع الصين والرفاهية لمواطني تايوان.
ما حدث كان بمثابة زلزال دفع الرئيسة تساي إينغ وين إلى أن تستقيل من رئاسة حزبها، كما استقال رئيس وزرائها سو تسينغ تشانغ، قبل ان تطلب منه البقاء في منصبه بانتظار انتخابات الرئاسة في العام 2024.
خيارات السلام والرفاهية هي انتصرت في النهاية، على حساب سياسات العزل والتهديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة