يتمنى العراقيون، أن تُحدث زيارة البابا فرانسيس فرقا في السياسة من أجل الانفتاح أكثر نحو الطوائف الأخرى والتخلي عن مبدأ المكونات والمحاصصة الطائفية.
أول رحلة يقوم بها البابا فرنسيس إلى أرض "أور"، كحاج سلام وأمل في مهبط نبي الله إبراهيم الخليل، وكل ما يصاحبها من ميثولوجيا ولادة الإنسان، والإيمان الذي يوحد المسلمين واليهود والمسيحيين، فهي تحمل رمزية أكثر من زيارة بغداد والنجف وأربيل والموصل. لم تكن أرض الرافدين غريبة على المسيحية، فقد كان مار ماري الرسول، تلميذ يسوع، من بين 72 تلميذاً أكملوا رسالة الإنجيل في بلاد الرافدين، في ساليق فيطيسفون، قرب بغداد مقابل سلمان باك "أي سلمان الطاهر" من الجهة الثانية لنهر دجلة حالياً، إلى جانب مار أدّي، من تلاميذ كنيسة المشرق، وهما وضعا النّافورة الرئيسية في القدّاس الكلداني، ولهذا وضعت رعية دير الأيقونات تحت حماية مار أدّي الرسول. ثم توالت الحملات التبشيرية وكان آخرها زيارة الأب أنطوني غروفس مبشراً بروتستانتياً إنجليزياً. كانت أرض الرافدين تجذب أقطاب الأديان من كل مكان. انتعش المسيحيون العراقيون في ظل النظام العلماني الذي كان يقوم بترميم كنائسهم وأديرتهم، ودعمهم، وحمايتهم، فالأقليات لا تنتعش إلا في ظل الأنظمة القوية، إلا أن أوضاع المسيحيين تدهورت منذ الاحتلال الأمريكي، حيث وجدوا أنفسهم بلا سند أو عون في نظام يعتمد على المحاصصة الطائفية والمليشيات التابعة لإيران.
وفي ظل هذه المعطيات التاريخية، ماذا يمكن أن تكون عليه زيارة البابا فرنسيس إلى العراق؟ هل هي زيارة دينية روحانية مجردة؟ أم أن البابا سيكون مضطراً للتفكير في الملفات الساخنة التي يعرفها جيداً فهل توضع على طاولة النقاش مع المسؤولين العراقيين؟ وهل سيقيم البابا الحداد على القتلى في مدينة الناصرية "أور" وضحاياها من الشباب الثائر الذي يطالب بحقوقه المشروعة؟ هل ستواجه الزيارة البابوية ظروف كورونا والإرهاب والظروف الأمنية الصعبة؟ هل يسأل البابا عن مصير آلاف المسيحيين العراقيين الذين يسكنون في المخيمات والذين هُجّروا من الموصل وأصبحوا بين مطرقة داعش وسندان الطائفية أو هؤلاء الذين هاجروا إلى خارج العراق وتركوا ممتلكاتهم بين الترغيب والترهيب؟
زيارة البابا للعراق مناسبة مهمة لإعادة النظر في العلاقة مع المسيحيين لا بد منها، خاصة في مصادرة أملاكهم وتهميشهم في المجتمع العراقي. فقد تضاءل عدد المسيحيين بنسبة 83%، من نحو 1.5 مليون إلى 250 ألفاً فقط منذ الاحتلال الأمريكي. إن الكنيسة العراقية واحدة من أقدم الكنائس في العالم إن لم تكن الأقدم، تقترب من الانقراض وسط الظروف الأمنية الصعبة التي يحل بها البابا على العراق، ما دفع فريق تنظيم زيارته إلى التفكير بجلب درك الفاتيكان والحرس السويسري لعدم الثقة بجهاز مكافحة الإرهاب والقوات الخاصة العراقية، بعد موجة من الهجمات بالصواريخ والقنابل مؤخرا، والتي أثارت المخاوف على سلامة البابا.
زيارة الحبر الأعظم يجب أن تكون حافزاً للأحزاب السياسية بأن تعيد النظر بما اقترفته ضد المسيحيين من مصادرة أملاكهم أو دفعهم إلى الهجرة بشتى الأساليب. ولا بد من إعلان وثيقة جديدة في هذا الصدد لتكون كعقد اجتماعي لإحلال السلام والمحبة التي ينادي بها البابا بين مختلف الطوائف الدينية.
كلها أسئلة تواجه زيارة البابا إلى العراق الذي لن يقبّل أقدام الحكام العراقيين، لأنهم لم يعملوا على إحلال السلام وكانت فرصتهم كبيرة مع تدفق مليارات الدولارات على الخزينة العراقية منذ 2003، لأن يتصدر البلدان في العمران والخدمات لكن الصورة لا تزال قاتمة.
البابا فرنسيس ليس حاجاً رسولياً إلى العراق، فقد تميز بمبادراته السياسية حيث شارك في استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وكوبا، ودعم قضايا اللاجئين وأزماتهم في أوروبا وأمريكا الوسطى، ونسّق مع الولايات المتحدة في عهدي الرئيسين أوباما وترامب، وأيضا مع جو بايدن، ووصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس بـأنه "ملاك السلام"، وغيرها. إن قداسة البابا يدرك أهمية العراق في المعادلات الشرق أوسطية. لذلك لا يمكن أن ننظر إلى زيارته على أنها روحانية فقط، أو من أجل أعمال خيرية ورعوية وروحية وإصلاحية وحسب، بل تحمل في طياتها رسائل سياسيّة وإعلامية، ومنها لقاؤه المغلق مع علي السيستاني، المرجع الأعلى للشيعة.
وخلال أربعة أيام، سيزور مدينة أور الأثرية وبغداد والموصل وأربيل، وسيقيم أكثر من قدّاس، لكنها لن تقتصر على الزيارة الروحية والدينية. إن بيت النبي إبراهيم الذي كان من الممكن أن يصبح أكبر مزارٍ لجميع الأديان لم يرقَ إلى ذلك، فقد ظل مهملاً شأنه شأن عشرة آلاف موقع أثري في العراق. لكن العراقيين يأملون بعد زيارة البابا إلى "أور" في أن يتوافد أفواج الحجاج إلى هذه المنطقة المباركة، ولكن ذلك غير ممكن وسط الظروف الأمنية.
وهنا نتساءل: ما فائدة زيارة البابا فرنسيس وأغلب المسيحيين العراقيين قد هاجروا أو هجّروا من بلدهم؟ هل ستمنحُ الزيارة النظام السياسي العراقي، وحكومته الحالية، شهادة حسن سلوك على كلّ ما حدث في العراق منذ أكثر من 17 عاماً؟ كيف ستستقبل إيران هذه الزيارة، وهي تعتبر العراق من توابعها؟
من العراقيين مَنْ هم معارضون لهذه الزيارة ومَنْ هم مؤيدون، إلا أنهم واثقون بأنها لن تنقذ أوضاعهم المأساوية والكوارث التي يواجهونها في حياتهم اليومية. البابا، بكل سلطته الروحية والمعنوية لن يخلص العراقيين من الجحيم. وأقلّ ما يطلبه العراقيون من البابا دعم ثورتهم من أجل تحقيق مطالبهم في الحياة الحرّة الكريمة، وإدانة المليشيات، وقتل الشباب المتظاهر والقضاء على الفساد وإلغاء التمييز الديني والطائفي وإعادة المهجّرين إلى بيوتهم. هذه ليست أمنيات بقدر ما هي ملفات ساخنة لا يمكن للبابا أن يغفلها أو ألا يفكر بها.
هل يؤمن القادة العراقيون بـ"الأخوة الإنسانية" ويعملون على تفعيلها وتطبيقها على الواقع المر؟ هل سيوقع البابا فرنسيس على ذات الوثيقة مع المرجع الشيعي التي وقعها مع شيخ الأزهر؟ يعلم البابا أن العراق مهد الحضارات وموطن الأنبياء. هذا هو الجانب الروحي للبابا الذي يعرف قيمته الرمزية والروحية. لكن هذه الأرض بسبب السياسة تمت إهانتها على مر العصور، ووطأتها جيوش الاحتلال من دون رحمة أو التفكير برمزيتها. مما لا شك فيه أن هذه الزيارة ستكون سنداً روحياً ومعنوياً للمسيحيين العراقيين، ومعظمهم يحلم بملاقاته لكن الظروف الأمنية لا تسمح بطبيعة الحال.
لن يبارك البابا ما حصل في العراق فهو جاء لكي يتعاطف مع ضحايا الحرب والإرهاب والفساد، فهل يستطيع أن يبوح بكل ذلك إلى المسؤولين العراقيين بكل صراحة؟
على ضوء ذلك، زيارة البابا مناسبة للحكومة العراقية أن تأخذ العبر من الزيارة البابوية المهمة، واستثمارها على أكمل وجه لدعم فكرة مهد الديانة الإبراهيمية، وتحويلها إلى حافز لتحسين ظروف الإنسان العراقي على الأرض. ويتمنى العراقيون، بمختلف أقلياتهم وأديانهم، ألا تكون زيارة البابا فرنسيس بروتوكولية بحتة، بل تُحدث الفرق في السياسة التي تتبعها الحكومة العراقية من أجل الانفتاح أكثر نحو الطوائف الأخرى والتخلي عن مبدأ المكونات سيئ الصيت، وكذلك المحاصصة الطائفية، وإيقاف الفساد المستشري في مرافق الدولة كافة، والكشف عن قتلة المتظاهرين والإفراج عن المخطوفين ومن بينهم كتّاب وأدباء وصحفيون، كلها تصب في روحانية هذه الزيارة التي تجمع بين السماء والأرض، وبين الديني والدنيوي، وبين الإنسان الرمز والإنسان الواقع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة