يراهن محمد بن راشد على جيل قارئ وعلى عشرة ملايين طالب يقرأ كل منهم خمسين كتابا كل عام.
قبل نحو نصف قرن من الزمان تقريبا أي في يونيو/حزيران من عام 1967 تحدث وزير دفاع إسرائيل في ذلك الوقت "موشي ديان" قائلا: "إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون".
كان التصريح مرحلة تالية على هزيمة حرب الستة أيام المدوية، غير أنه وبعد أقل من خمس سنوات كان الجيش المصري يزلزل الأرض من تحت أقدام الإسرائيليين، بعد أن قدر له أن يقرأ جيدا ويستوعب علامات الأحداث والأزمنة ليعبر خط بارليف، في معجزة عسكرية قال البعض إنها تحتاج إلى سلاح المهندسين الأمريكي والسوفيتي معا.
كان السر في القراءاة، فقد عرف المصريون كيف يقرأون أبعاد المشهد، وكيف يستفيدون مما قرأوا، وعبر مهندس مصري عبقري رحل عن عالمنا مؤخرا جاءت فكرة استخدام القانون الثالث من قوانين نيوتن لإسقاط الحائط الرملي بمياه القناة.
مغرم محمد بن راشد بالتحدي وتذليل الصعاب، وما مشروعه إلا تحدٍ جديد يضاف إلى أفكاره التقدمية غير المقولبة، فهو يسعى إلى أن يغرس حب القراءة في نفوس جيل الأطفال والشباب في الوطن العربي، ويتطلع إلى تمكين القراءة في نفوسهم لتصبح عادة متأصلة في حياتهميتجرأ اليوم الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء، على الأمل الكفيل بأن يغير شكل العالم العربي عبر القراءة ومشروعه الخاص بالتحدي الأجمل في التاريخ؛ تحدي مخاطبة كبار العقول عبر الكلمات المكتوبة، وتحدي القفز على الانسدادات التاريخية من خلال فتح آفاق معرفية.
يراهن محمد بن راشد على جيل قارئ، على عشرة ملايين طالب يقرأ كل منهم خمسين كتابا كل عام، يراهن على عقولهم ومعارفهم وعلمهم، والسؤال.. كيف للعالم العربي أن يكون إذا استخدم مفتاح القراءة والمعرفة؟ وأي مجتمع أفضل يمكن أن يكون عليه حال العرب؟
يستوقف المرء في التغريدة الأخيرة التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد على هامش الإعلان عن أسماء الفائزين بتحدي القراءة العربي قبل أيام قليلة تعبير "وبهم نستأنف الحضارة"، والسؤال.. لماذا؟ فيما الجواب يسير وغير عسير، فقد قامت حضارة ونهضة عربية حين كان الخلفاء يزينون الكتب بالذهب، وعندما كانت الحضارة العربية نتاج تلاقح أفكار وقراءات لكل أجناس البشر، أولئك الذين ملأوا أرجاء العالم العربي في ذلك الزمان وقد جاءوا من كل صوب وحدب، فقدر لهم أن يترجموا علوم اليونان إلى العربية، ومنها انتقلت إلى اللاتينية الأوروبية حيث أقوام استطاعوا أن يراكموا معرفة وعلما، ويصنعوا حضارة أوفت لهم، فيما أخلفنا الحظ من جراء تقاعسنا عن القراءة بعزم والتفكير بحزم.
من يتابع تصريحات الشيخ محمد بن راشد عن القراءة يتساءل: "كيف يعرف المرء إن لم يقرأ؟ والجواب عند عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي يعتبر أن الحث على القراءة خير ما يوجه إلى الأفراد والجماعات، في جميع الأمم والشعوب وفي الشعوب العربية بوجه خاص، بل هو خير ما وجه إلى الإنسان منذ تحضر إلى الآن.
ولقد بدأ تنزيل القرآن بفعل قصير خطير هو كلمة "اقرأ"، وهذا هو الأمر الكريم بالقراءة، ويضيف: "وما نعرف شيئا يحقق للإنسان تفكيره وتعبيره ومدنيته كالقراءة، فهي تصور التفكير على أنه أصل لكل ما يقرأ، وعلى أنه غاية لكل ما يقرأ، فالكاتب يفكر قبل أن يكتب وفي أثناء كتابته، والقارئ يفكر فيما يقرأ في أثناء قراءته وبعد أن يقرأ.
والثابت أنه إن كان فعل القراءة فعلا مهما بالنسبة للكبار والبالغين فإن قيمته تتضاعف مرات كثيرة في حال أطفال المدارس من الابتدائي حتى الثانوي، أي ذلك القطاع الذي يستهدفه مشروع تحدي القراءة العربي.
لا يزال التعبير الجميل "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" فاعلا ومؤثرا في حياة الأمم والشعوب، وهو النقطة التي تنطلق من عندها أجيال اليوم لتقود رايات النصر في الغد، النصر بأشكاله المختلفة وميادينه المتباينة، فليس النصر هنا هو ساحات القتال الكلاسيكية، إذ بات الانتصار في ميادين العلم والعمل، المال والأعمال، لا تقل شأنا عن الحروب، وما من مفتاح ذهبي يضمن الانتصارات ويجنب الانكسارات سوى القراءة الجادة التي تكلف صاحبها جهدا إلى جهد، وتدفعه لعناء ما بعده عناء، وما بين هذه وتلك تبقى اللذة الحقيقية.
مغرم محمد بن راشد بالتحدي وتذليل الصعاب، وما مشروعه هذا إلا تحدٍ جديد يضاف إلى أفكاره التقدمية غير المقولبة، فهو يسعى لأن يغرس حب القراءة في نفوس جيل الأطفال والشباب في الوطن العربي، ويتطلع إلى تمكين القراءة في نفوسهم لتصبح عادة متأصلة في حياتهم، لا مجرد هواية تمارس في أوقات الفراغ مما يحفز ملكة الفضول ورغبة المعرفة لديهم، إضافة إلى أن القراءة تدفع الطلاب إلى تنمية مهاراتهم التحليلية والنقدية والتعبيرية.
الذين يقرأون لا ينحرفون، وأفضل السبل لخلق جيل لديه مقدرة القفز على مغريات العولمة من جهتها السلبية هي القراءة، فالقارئ يترفع عن مثالب العصر الحديثة كالإدمان بكل أنواعه، والانحراف على تنوع صنوفه.
والشاهد أيضا أنه إذا كان التعصب والتمذهب اللذان أنتجا الإرهاب قائمان على الرؤية الأحادية، والدعوة إلى الانعزالية وإقصاء الآخر، فإنه ليس أفضل من القراءة كفعل يدعو إلى الانفتاح والتلاقي وقبول الآخر دون تمييز ودون إحساس بالنقص أو صغر الذات، فالقراءة تعزز قيما أخلاقية عديدة كالتسامح والانفتاح الفكري والثقافي، وذلك عبر الاطلاع الواعي المعمق على أفكار الكتاب والمفكرين والفلاسفة والمؤرخين، وما ذهبوا إليه من مذاهب أو اختلفوا فيه من مشارب، وتبقى تجاربهم الغنية والواسعة زادا للحضارة في أسمى معانيها وأرقى مبانيها.
حين يرعى محمد بن راشد أطفال العرب فإنه يتطلع لخلق جيل جديد قادر على القيام بأمور ثلاثة حتما ستغير الواقع العربي في الحال والاستقبال: أولا الملاحظة، وثانيا الاستكشاف، وثالثا البحث الذاتي عن المعرفة، التي بدورها تمثل الطريق السليم نحو ثقافة شخصية عالية وتطور معرفي يصاحب الفرد عبر فترات حياته مع تغيير أهداف القراءة.
أجمل الكلام الذي يمكن أن ننهي به هذه السطور رؤية عملاق الأدب العربي الأستاذ عباس العقاد، رجل العبقريات، حين قال إنني أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق إن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب".
محمد بن راشد.. سلمت يدك وعقلك قبلهما.. حقا الذين يقرأون لا ينهزمون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة