صعود ألمانيا واليابان.. "السلام الأمريكي" يحتضر
خلصت دراسة نشرتها مجلة "فورين أفيرز"، إلى أن نظام "السلام الأمريكي" لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مهدد بصعود ألمانيا واليابان.
وكانت ألمانيا واليابان ضمن دول المحور التي خاضت ضد ما كان يعرف بدول "العالم الحر" أو "الحلفاء"، الحرب العالمية الثانية.
وتدرس الدولتان منذ مدة وضع استراتيجية جديدة لتسليح جيشهما بعد سنوات من القيود التي فرضتها الهزيمة في الحرب العالمية الثانية.
ومع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تنامت المبررات التي تدفع البلدين إلى انتهاج سياسة جديدة مختلفة جذريا.
واعتبر التحليل أنه في حين ترغب الولايات المتحدة في بناء حلف قوي بين الدول الديمقراطية يعمل على مواجهة وحصار روسيا والصين، فإن برلين وطوكيو، على العكس، قد لا تكونان تماما عند حسن ظن واشنطن في هذا السياق، إذ ستتيح قوتهما القادمة قدرا من الاستقلالية في اتخاذ القرار والتوجه السياسي وقد تطلبان مقابل من واشنطن في كل مرة ستقفان فيها في صفها.
ووفقا للدراسة التي تحمل عنوان "النهاية الحقيقة للسلام الأمريكي"، وكتبها مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية غالبًا ما يوصف بأنه نتاج القوة الأمريكية، وهو أيضًا نتاج الضعف المصطنع لألمانيا واليابان.
فبعد عام 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية)، تحاشى البلدان أن يقتربا من وضع "القوة العظمى" واتبعا مقاربات سلمية في السياسة الخارجية.
بعبارة أخرى، هذا النظام يستند إلى حالة غير طبيعية يمكن وصفها بـ"التهدئة القسرية لبلدين تتيح لهما عوامل الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ أن يصبحا مهيمنين إقليميين".
تطور مغاير
لكن العملية العسكرية الجارية في أوكرانيا حاليا والعداء المتزايد بين الولايات المتحدة والصين يهددان بقلب هذا الوضع الراهن ومعه حقبة السلام الأمريكي.
فقد أعادت ألمانيا توجيه سياستها الخارجية وتعهدت بزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل جذري واتخذت موقفًا متشددًا تجاه أوكرانيا، وكذلك اليابان، التي تشعر بالقلق من سعي الصين إلى الهيمنة الإقليمية، تبدو أقرب من أي وقت مضى إلى تحول مماثل.
وعلى المدى القصير، قد تعجل هذه التحولات بتوحيد الغرب أو حتى إحيائه، إذ زادت المعارك في أوكرانيا من اعتماد ألمانيا واليابان على الولايات المتحدة وأدت إلى مستويات من التعاون لم نشهدها منذ الحرب الباردة.
ولكن إذا استمرت ألمانيا في مسارها الجديد وشرعت اليابان في مسار مماثل، فقد يحدث شيء مغاير، حيث قد يصبح كلا البلدين أقل اعتمادًا على الولايات المتحدة وأكثر ارتباطًا بجيرانهما.
ومثل هذا التحول من شأنه أن يغير بشكل عميق ليس فقط النظام الأمني في أوروبا وآسيا ولكن ديناميكيات العالم الغربي.
بمعنى آخر، فقد تفسح "باكس أمريكانا" (السلام الأمريكي) الطريق لترتيبات أمنية إقليمية أكثر تعاونًا فيما بينها، وهو ما يستدعي من الولايات المتحدة العمل على إعادة تشكيل تحالفاتها، ومعاملة الحلفاء كشركاء حقيقيين بدلاً من حلفاء صغار.
وفي حين أن ذلك قد يكون مؤلمًا وصعبًا لواشنطن على المدى القصير. لكن على المدى الطويل، ستكون هذه التغييرات مفيدة للنظام العالمي.
نقطة تحول
وبعد 4 أيام من العملية الروسية في أوكرانيا، تحدث المستشار الألماني أولاف شولتز في خطاب ثوري عن "نقطة تحول" في السياسة الخارجية الألمانية، وهى التي يمكن أن تغير هوية البلد ذاتها.
وقررت برلين تزويد أوكرانيا بالأسلحة بعد عقود من مقاومة تسليح المتحاربين في أي منطقة صراع، وإنشاء صندوق بقيمة 100 مليار يورو لتحديث قواتها المسلحة بعد سنوات من التباطؤ في الإنفاق الدفاعي، وإنهاء اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا بعد سنوات من مساعي تحييد روسيا من خلال العلاقات الاقتصادية.
وأسفر هذا عن إشعال نقاش أكبر حول دور البلاد الأوسع في العالم، وهو جدال انطلق أيضا في اليابان التي بدأ مسؤولو الدفاع والأمن فيها في التعامل مع تهديد الصين.
وكانت طوكيو قد اتبعت استراتيجية ثلاثية المحاور، تقوم على زيادة الإنفاق الدفاعي (زاد من 45.1 مليار دولار في 2017 إلى 54.1 مليار دولار في 2021) وتعميق التحالف مع الولايات المتحدة، حيث بدأ الحزب الليبرالي الديمقراطي مناقشات داخلية حول الردع النووي، بما في ذلك القضية المثيرة للجدل المتعلقة باتفاقية مشاركة نووية محتملة مع واشنطن.
كما تعيد اليابان صياغة علاقاتها الأمنية مع شركاء آخرين في المنطقة، لا سيما أستراليا والهند والفلبين وسنغافورة وفيتنام.
وتعمل طوكيو الآن على دمج هذه التغييرات في استراتيجية جديدة للأمن القومي سيتم نشرها بحلول نهاية العام.
وانعكس هذا في تعامل طوكيو مع حرب أوكرانيا، والذي يختلف بشكل ملحوظ عن ردها على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ففي ذلك الوقت، سعت اليابان إلى الحفاظ على علاقات مستقرة مع موسكو، للتحوط ضد بكين بل أيضا - مثل ألمانيا - للحصول على طاقة رخيصة من روسيا. لكن هذه المرة، انضمت اليابان إلى الغرب في فرض عقوبات على موسكو، وقدمت مساعدات إلى أوكرانيا، وذلك لتقوية علاقاتها مع واشنطن ولأنها تخشى أن تميل الصين إلى شن هجوم مماثل على تايوان، فتريد اليابان فرض تكاليف باهظة على روسيا حتى تفهم الصين الرسالة في حال غزت تايوان.
توجهات داخلية
ووفقا للكاتب، فإن الرأي العام الداخلي في كل من ألمانيا واليابان أيضا تغير بسبب الحرب. فحتى قبل أن تبدأ موسكو حربها، زعم أكثر من نصف المشاركين الألمان في استطلاع في يناير/كانون الثاني 2022 أن موقف روسيا من أوكرانيا يشكل تهديدًا عسكريًا كبيرًا لبلدهم.
ويخشى كثير من اليابانيين من أن الحرب على تايوان قد تكون التالية. وقال ناروشيج ميتشيشيتا نائب رئيس المعهد الوطني للدراسات السياسية في طوكيو: "إذا كانت هناك حرب في مضيق تايوان ، فستشارك اليابان تلقائيًا تقريبًا حيث تستضيف القواعد الأمريكية التي ستهاجمها الصين".
كما يميل مواطنو البلدين إلى التخلص من وصمة التاريخ بحقهم. إذ جادل المؤرخ أندرياس ويرشينج أن الحرب في أوكرانيا تعمل على تسريع انفصال ألمانيا عن ماضيها النازي زاعمة أن شريرا آخر في القارة الأوروبية متهم بارتكاب "إبادة جماعية ومواصلة حرب إبادة"، حسب زعمه.
كما أن اليابان ستخلص نفسها، أمام قوة الصين الصاعدة، من وصمة جرائم الماضي التي ارتكبتها الدولة، سواء بين الجمهور الياباني وفي العديد من العواصم الآسيوية.
ومن العوامل التي قد تدفع البلدان للتطور في اتجاه أكثر استقلالية، هو الشعور لدى الرأى العام بأن بلدهم لا يمكنه الاعتماد أكثر من هذا على الولايات المتحدة، إذ يتوقع الألمان مثلا أن تتفوق الصين على أمريكا خلال عقد من الآن، كما أن التغييرات الهيكلية في السياسة الأمريكية مثل تلك التي أجراها الرئيس السابق دونالد ترامب تتحدى الاستدامة والاستقرار في قرارات واشنطن.
وهنا ينقل الكاتب عن السفير ألماني السابق لدى واشنطن ولفجانج أيشنجر أن الألمان "بحاجة إلى خطة بديلة للاعتماد على أمريكا في المسائل الدفاعية".
ويقول: "أعتقد أن ألمانيا عليها أن تستكشف فرص الحصول على ضمانات دفاعية من فرنسا النووية".
وفي اليابان، يعتقد محللون أن طوكيو عليها أن تستثمر أكثر في دفاعتها بشكل أوسع من الاعتماد على الولايات المتحدة. فهم قد تابعوا بقلق كيف أن أمريكا (في الأزمة الأوكرانية) تفرق بين التعامل مع أعضاء الناتو وحلفائها من خارجه وكذلك هم يشكون في مدى استعداد أمريكا للدفاع عن تايوان في وجه غزو صيني مفترض.
ترتيبات أمنية مختلفة
ووفقا للكاتب، فإن التحولات في سياسات الدفاع الألمانية واليابانية يمكن أن تخلق على المدى الطويل ترتيبًا مختلفًا كثيرًا، وتغيير النظام الإقليمي في أوروبا وآسيا، وتحويل تحالفات كلا البلدين مع الولايات المتحدة.
فمثلا أحد أسباب فشل الأوروبيين في تطوير سياسة خارجية مشتركة هو افتقارهم إلى الثقة في بعضهم البعض.
لكن أزمة أوكرانيا جمعت الأوروبيين معًا، وأقنعت الدول التي فضلت سابقًا التعامل مع روسيا ، مثل ألمانيا وإيطاليا، على تبني سياسة الاحتواء.
وإذا استمر هذا التقارب، يمكن للمرء أن يرى تحالفًا استراتيجيًا أوروبيًا حقيقيًا، مدعومًا في نهاية المطاف بصناعة أسلحة أوروبية وحتى من الممكن تصورها بواسطة رادع نووي أوروبي أكثر شيوعًا (أو على الأقل رغبة من قبل فرنسا لتقاسم رادعها). وبدلاً من الاستمرار في توسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، قد تختار أوروبا ترتيبات متعددة الأطراف أصغر حجمًا وأكثر مرونة تشمل بعضًا من أهم اللاعبين.
في الوقت نفسه، فمن المرجح أن تحافظ الولايات المتحدة على تحولها في التركيز على المحيطين الهندي والهادئ، لكن وزنها الاقتصادي والعسكري سوف يتقلص مقارنة مع وزن الصين.
ونتيجة لذلك، من المحتمل أن تعزز طوكيو والقوى الإقليمية الأخرى علاقاتها مع الولايات المتحدة ومع ذلك تستمر في التنويع بما يتجاوز تحالفاتها التقليدية مع واشنطن.
وبحسب محللين يابانيين، فقد بدأ بالفعل في الظهور نظام آسيوي جديد يشمل العلاقات مع الولايات المتحدة وتعاون أوثق بين قوى مثل أستراليا والهند واليابان والفلبين وسنغافورة وفيتنام.
ويعتقد هؤلاء أن الدول الآسيوية لن تشكل تحالفًا شبيهًا بحلف شمال الأطلسي بل تزيد من التعاون في مجالات مثل الاستخبارات والأمن البحري وإنفاذ القانون.
وفيما يتعلق بالأمن، يمكن أن يظهر تقسيم أكثر توازناً للعمل. سيتعين على الأوروبيين تحمل المزيد من المسؤولية المباشرة عن الأمن في أوروبا الشرقية والبلقان والشرق الأوسط
وفي آسيا، سيتعين على القوى الإقليمية أن تستثمر أكثر في قدراتها الخاصة لموازنة النفوذ الصيني في المنطقة. ولا تزال الولايات المتحدة تلعب دورًا مهمًا ولكنها لم تعد تحتل الصدارة.
aXA6IDMuMTM5LjEwOC45OSA=
جزيرة ام اند امز