لقد دلت التجارب في مثل هذه الحالات، أن الرئيس يبقى مكتوف اليدين، بمعنى أنه لن يستطيع اتخاذ قرارات حاسمة إلا بعد العودة إلى شركائه.
اعتقد الكثيرون - ومنهم كاتب هذه السطور - أن العمليات الإرهابية الكثيرة التي ضربت إندونيسيا منذ ثورة الشعب ضد ديكتاتورية الرئيس الأسبق سوهارتو في عام 1991 قد انتهت إلى غير رجعة. وكان هذا الاعتقاد مبنياً على تراجع الإرهاب بصورة مشهودة خلال عهد الرئيس السابق الجنرال «سوسيلو بامبانج يودويونو» قياساً بما حدث في عهود أسلافه. فالأخير لئن وضع بلاده على سكة الديمقراطية بقوة وحقق لها بعض النمو الاقتصادي، فإنه من جهة أخرى ضرب خلايا الإرهاب بصرامة وتصدى لانتشارها بعزيمة حديدية. غير أن خروج الرجل من السلطة، احتراماً وتطبيقاً للتعديلات الدستورية التي تم إقرارها في عام 2008 والقاضية بقطع الطريق على أي رئيس منتخب لتولي رئاسة إندونيسيا أكثر من فترتين رئاسيتين متتاليتين مدة كل واحدة خمس سنوات، إضافة إلى انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب، وليس من قبل نواب الشعب في البرلمان، أربك المشهد السياسي، فيما ابتهج الكثيرون من بقايا التنظيمات الإسلاموية المتشددة بالحدث على أمل أن تتاح لهم فرص أكبر للتحرك في ظل الرئيس القادم.
راحت ظاهرة التشدد تعود وتستفحل في شكل تجمعات ميدانية يحضرها الغلاة، ويخطب فيها زعماء شباب من الذين عادوا إلى إندونيسيا من بعد سنوات من الجهاد في أفغانستان وجنوب الفلبين وغيرهما.
صحيح أن حقبة ما بعد الرئيس يودويونو شهدت انتخاب رئيس مدني جديد «جوكو ويدودو» بسلاسة في عام 2014، لكن الصحيح أيضاً أن الحزب الذي ترشح عنه «ويدودو»، وهو «الحزب الديمقراطي الإندونيسي من أجل النضال» بزعامة «ميجاواتي سوكارنو بوتري» الرئيس الأسبق للبلاد وابنة أول رؤساء إندونيسيا بعد الاستقلال، لم يحصل سوى أقل من 20 في المائة من مقاعد البرلمان، الأمر الذي فرض عليه الدخول في مساومات مع الأحزاب السياسية الأخرى لإدارة البلاد.
لقد دلت التجارب في مثل هذه الحالات، أن الرئيس يبقى مكتوف اليدين، بمعنى أنه لن يستطيع اتخاذ قرارات حاسمة إلا بعد العودة إلى شركائه، ويزداد الأمر سوءاً حينما تكون أجندات الشركاء متضاربة أو تكون أعينهم مصوبة على مصالحهم الحزبية الضيقة، ومغازلة أنصارهم في الشارع، بدلاً من أن تكون معنية بمصالح البلاد العليا في الأمن والاستقرار والازدهار. وبطبيعة الحال، فإن هذا يمثل أحد مساوئ الديمقراطية، شئنا أم أبينا.
وقد تجلى هذا بوضوح في العام الماضي، حينما كانت علمانية البلاد وتسامحها الإثني والثقافي على المحك، فعجزت الحكومة عن حمايتها. والإشارة هنا - بطبيعة الحال - إلى عملية انتخاب حاكم جديد لجاكرتا العاصمة ذات الملايين العشرة من السكان المتنوعين في عرقياتهم ودياناتهم ومذاهبهم وثقافاتهم. ففي تلك الانتخابات جندت القوى والتنظيمات الإسلاموية المتطرفة كل إمكاناتها المادية والبشرية والإعلامية واللوجستية، تحت سمع وبصر الدولة، للحيلولة دون إعادة انتخاب حاكم جاكرتا المسيحي «باسوكي تاهاجا بورناما»، على الرغم من أن هذا المنصب لم يكن يوماً محل صراع بين مسلمي العاصمة وأصحاب المعتقدات الأخرى، بل قام هؤلاء الغلاة برفع دعاوي قضائية ضد الرجل أمام المحاكم، زاعمين أنه أهان القرآن والإسلام حينما انتقد بعض رجال الدين لقيامهم بتفسير آية من آيات القرآن بطريقة تفرض على المسلم ألا ينتخب غير المسلم، حتى وإن كان شريكاً له في الوطن. وقتها دعا مراقبون كثر جاكرتا إلى ضرورة التنبه إلى حجم وتأثير وإمكانيات تلك القوى المتشددة التي ظهرت في الميادين علناً للضغط باتجاه انتخاب المرشح المسلم أنيس باسويدان لمنصب حاكم جاكرتا ومقاضاة منافسه المسيحي، وضرورة عدم تركها لتنمو وتتحول إلى دويلة داخل الدولة. لكن جاكرتا لم تتحرك بسبب «الديمقراطية»، و«حقوق الإنسان» وغير ذلك من الشعارات التي يجب لفظها حينما يكون أمن الوطن مهدداً.
وهكذا راحت ظاهرة التشدد تعود وتستفحل في شكل تجمعات ميدانية يحضرها الغلاة، ويخطب فيها زعماء شباب من الذين عادوا إلى إندونيسيا من بعد سنوات من الجهاد في أفغانستان وجنوب الفلبين وغيرهما، مثل المتطرف المدعو «محمد غاتوت سابتونو» الشهير بـ«محمد الكثاث» الذي عمل طويلاً مع «حزب التحرير الإسلامي» الساعي لإعادة دولة الخلافة الإسلامية، قبل أن ينشق عنه ويؤسس تنظيم «منتدى علماء الإسلام» الأكثر غلواً. والحقيقة أن التنظيمات الإندونيسية التي يقودها «الكثاث» وغيره من المؤدلجين لا تستغل مناخ الديمقراطية وحرية العمل في بلادها لتغيير هوية الدولة الإندونيسية فقط، وإنما تسعى جاهدة أيضاً لدس أنفها في شؤون دول أخرى، من خلال التجنيد والتدريب، والتسليح وجمع الأموال تحت لافتة «الجهاد لنصرة الإخوة المظلومين والمضطهدين» في بورما والفلبين وسوريا مثلاً.
وقد اشتكت أجهزة الأمن والشرطة الإندونيسية مراراً من أن القانون لا يقف في صفها لجهة التضييق على هؤلاء، وكبح جماحهم والحيلولة دون تلويثهم لعقول الشباب بأفكارهم المضللة. وتكررت مثل هذه الشكاوى مؤخراً في أعقاب اعتداءات مايو الانتحارية ضد الكنائس ومراكز الشرطة، والتي لم تشهدها البلاد منذ سنوات، خصوصاً أنها تميزت هذه المرة بتنفيذها من قبل أسر كاملة متشددة «مع أطفالها الصغار». ولعل هذا هو السبب في مسارعة البرلمان إلى إقرار تشريع يعطي قوات الشرطة مزيداً من الصلاحيات لاتخاذ إجراءات احترازية مسبقة ضد المشتبه بهم بالإرهاب (الاحتجاز دون محاكمة لشهر بدلاً من أسبوع مثلاً)، ومقاضاة كل من قاتل إلى جانب التنظيمات المتطرفة في الخارج، وكل من يجند شخصاً للقتال خارج البلاد. كما أن القانون الجديد الذي بقي معطلاً دون تمرير بسبب جدل برلماني طويل حول تعريف الإرهاب والإرهابي، يمنح السلطة القضائية حق إصدار أحكام أطول بالسجن ضد المتطرفين والإرهابيين.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة