سعيد والقروي وجها لوجه.. انفعالات ترسم ملامح ساكن قرطاج
من المرجح أن تحسم المناظرة اتجاهات الناخبين، وتحدد ربان السفينة المتجهة نحو قرطاج، بما ضبطته من تفاصيل تعد محورية في تقييم الناخب.
مناظرة تلفزيونية جمعت مرشحي الرئاسة التونسية، قيس سعيد ونبيل القروي، من المرجح أن تحسم اتجاهات الناخبين، وتحدد ربان السفينة المتجهة نحو قصر قرطاج، بما ضبطته من تفاصيل جزئية تعد محورية في تقييم الناخب.
أستاذ قانون يواجه رجل أعمال.. الأول مستقل محسوب على المحافظين، والثاني مرشح حزب ليبرالي (قلب تونس)، وفي خضم جملة التناقضات أو التنافر الملحوظ في جميع طيات وتفاصيل الرجلين، جرت المقابلة قبل ساعات قليلة من بدء سريان الصمت الانتخابي، لتفصح عن مدى قدرة كل واحد منهما على التعامل أكاديميا وسياسيا وجسديا مع الأسئلة المطروحة.
الفصحى والعامية
اللافت في المناظرة التي بثها التلفزيون التونسي الرسمي هو الاختلاف الظاهر في التعامل مع اللغة.. سعيد كعادته بدأ متمسكا باللغة العربية الفصحى في حديثه، قبل أن تجبره بعض محطات المناظرة وبعض الأسئلة على التخلي عنها، ليستخدم تارة العامية وطورا الفرنسية، وكأنه يريد القول لمنتقديه بأنه يجيد التعامل بأكثر من لغة وباللهجة المحلية أيضا.
لكن المتتبع لردود الفعل الشعبية عبر مواقع التواصل، يلمس انتقادات واسعة من قبل فئة كبيرة من التونسيين، وخصوصا الطبقة البسيطة والشباب الذي لم يبلغ بعد مستوى تعليميا يؤهله لفهم ما يقوله سعيد.
إذ بدا سعيد محشورا في زاوية أكاديمية غارقة في تخصصه القانوني، ما يجعل تعامله وإجاباته مركبة وموجهة للنخبة، فيما يجد المواطن البسيط صعوبة في استيعابها، وهذا من بين الأسباب الكامنة وراء قول كثيرين: "نحن لم نفهم قصده أو برنامجه من الأساس".
التواصل هنا بدأ غير آمن ومضمون بين سعيد والمتلقي، وفق مراقبين، بغض النظر عن قدرته على التعامل مع النخبة، وهذا خلافا للقروي الذي يتبنى اللهجة العامية في خطاباته، ما يسر وصول رسائله إلى أنصاره ومتابعيه باختلاف مستوياتهم التعليمية وخلفياتهم الثقافية.
الجهاز السري للإخوان
رغم أن الأوساط التونسية تنتظر بفارغ الصبر موقف القروي وسعيد من الجهاز السري لحركة النهضة الإخوانية، فإن الرجلين راوغا في الإجابة عن سؤال حول ما يعتزمان القيام به حيال هذا الملف حال فوزهما بالرئاسة.
القروي الذي حل حزبه ثانيا بالانتخابات التشريعية الأخيرة بدأ حذرا في التعامل مع السؤال، وحاول الاحتفاظ بجميع مفاتيح الاحتمالات التي قد تطرحها التحالفات المستقبلية لتشكيل الحكومة القادمة، فكان أن ألقى بالأمر إلى القضاء حتى لا يثير انتقادات أو استنكار الحركة الإخوانية التي قد يضطر يوما للتعامل معها في إطار تسويات سياسية معينة.
وقال القروي: "لا بد من تشكيل محكمة مختصة تبحث في قضية الجهاز السري لحركة النهضة"، في رد مقتضب لا يطفئ لهيب فضول التونسيين لمعرفة برامج رئيسهم المستقبلي المحتمل لحسم أكثر الملفات المثيرة للجدل، والتي تشير إلى أن الحركة الإخوانية متورطة، عبر جهاز سري، في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013.
من جانبه، قال سعيد ردا على السؤال نفسه إن القانون يجب أن يطبق على الجميع من دون استثناء، مضيفا: "نرفض وجود أي جهاز خارج إطار الدولة"، متقفا بذلك مع القروي حول رمي الكرة بهذا الخصوص إلى القضاء.
وأوضح أن قضية الجهاز السري لحركة النهضة من مسؤولية القضاء، مشددا على ضرورة تشكيل محكمة مختصة تبحث في القضية.
حركة الجسد.. سعيد ينفعل والقروي براجماتي
وفق مختصين، أظهرت مناظرة الليلة تناقضا كبيرا في حركات المرشحين مقارنة بانفعالاتهما وكلامهما.
فسعيد المعروف عنه ثباته الانفعالي نوعا ما، فقد لوهلة هدوءه وبدأ عصبيا حد المبالغة حين سئل عن وثيقة مسربة من وزارة المالية، حول مبلغ مالي قال إنه حصل عليه من بيع منزل ضمن ميراث عائلته.
بدأ منفعلا في وقت لم يكن فيه المجال يتطلب كل تلك العصبية، كما أن إجابته لم تكن مقنعة، لكنه استدرك الأمر في محطات أخرى من المناظرة، مركزا على مخزونه الأكاديمي القوي خصوصا في الأسئلة التي تتطلب خلفية قانونية، بحسب المراقبين.
وتغيرت ملامح سعيد أيضا من خلال حركات عينيه وفمه اللتين ترجمتا أن الرجل يحاول كبت منسوب أكبر من الانفعال، وهو ما فاقم من مخاوف ظهور شخصية صادمة للتونسيين حال حصوله على المنصب، خصوصا أن كثيرين من يصفونه بالغامض، وينتقدون غياب برنامج انتخابي واضح له.
في المقابل، ظهر القروي رغم حديثه بالعامية، أكثر هدوءا وواقعية وبراجماتية، وبدأ قريبا من الطبقات البسيطة التي يستهدفها لتعزيز رصيده الانتخابي، ولذلك كان حريصا على اللعب بورقة الفقر، المعضلة التي يعاني منها سكان الشريط الغربي للبلاد، معقل ناخبيه، إضافة إلى محافظة بنزرت أقصى شمالي البلاد التي ينحدر منها.
ورغم ما بدا من عدم إلمامه بكثير من المواضيع، وضعف ردوده، واضطرابه أحيانا، ما لبث القروي أن تدارك الأمر بالتركيز على بعض الأسئلة التي تسمح إمكاناته بالخوض فيها بعمق.
وبشأن حركات جسده، عول القروي على يديه، وهذا يعني في لغة الجسد أنه يعاني من نقص ما على مستوى معين في المخزون الثقافي أو السياسي، فيحاول تعويضه بتلك الحركات المتواترة، لجذب الانتباه إليهما والتغطية على النقص الحاصل، بحسب خبراء في لغة الجسد.
الفرصة الأخيرة قبل الصمت
إجمالا، حاول المرشحان على مدى ساعتين من الزمن، طرح تصورهما لدور الرئيس ومهامه، في فرصة كانت الأخيرة لهما لإقناع التونسيين ممن ظفروا بدورهم بفرصة الاطلاع على شخصيتي الرجلين وما يمتلكانه من مهارات وخصال قد تحدد ملامح الرئيس القادم.
فرصة وفرت لملايين الناخبين ممن لم يطلعوا بشكل مباشر على خطاب القروي الذي خاض الدور الأول للرئاسية من سجنه، لسبر أغوار هذا المرشح الذي تدور حوله شائعات كثيرة قد تسهم بشكل أو بآخر في صعوده أو في خصم رصيده الانتخابي.
سعيد أيضا، أكد أنه ذلك المرشح الغامض الذي ينظر إليه البعض على أنه بلا برنامج انتخابي حقيقي، ما يؤكد الأهمية المحورية لمناظرة يتوقع أن تكون العنصر الحاسم والمحدد في ترجيح كفة أحدهما، خصوصا في ظل غياب حملات انتخابية لكليهما، ذلك أن المرشح المستقل اختار عدم القيام بحملة تضامنا مع القروي الموقوف قبل أن يفرج عنه لاحقا، وضمانا لمبدأ تكافؤ الفرص.
وفي خضم كل تلك الضبابية المخيمة على المشهد التونسي، يقف المرشحان على خط الانطلاق نحو قصر قرطاج، محملين بآمال الحصول على مفاتيحه، في واحد من أكثر الانتخابات التونسية تشويقا.