أصحاب القناعات المطلقة لا يرون من الواقع إلا ما يتوهمون، وقد يبلغ الأمر مستوى مثيرا للدهشة لحجم الصلف في معاندة الواقع
لا يحاول المسؤولون الإيرانيون، بالنظر إلى ما يواجهه مشروعهم الطائفي في العراق ولبنان، أن يكذبوا على الناس. فالناس يرون الواقع ويعرفونه، وهم ليسوا في حاجة إلى من يقدم لهم صورة مختلفة عنه، أولئك المسؤولون إنما يحاولون أن يكذبوا على أنفسهم فحسب.
أصحاب القناعات المطلقة لا يرون من الواقع إلا ما يتوهمون، وقد يبلغ الأمر مستوى مثيرا للدهشة لحجم الصلف في معاندة الواقع، وما ذلك إلا من جرأة الباطل.
تشير الدلائل والوثائق الى أن عملاء مأجورين يحتلون أعلى المناصب والوزارات تولوا توجيه العراق إلى أن يكون بلدا منكوبا على كل وجه، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا، حتى لكأنه أصيب بطاعون، وكان الطاعون إيرانيا بامتياز
قائد مليشيا الحرس الثوري في إيران حسين سلامي، واحد من هؤلاء، ولكنه أثبت أنه يستطيع الذهاب في الصلف إلى أقصى حد، فهو ألقى باللوم على السعودية والولايات المتحدة في "اضطرابات العراق"، وقال في أحد آخر تصريحاته إن "العراقيين يدافعون عن هويتهم الدينية ويعيشون في فتنة".
ويقصد سلامي بـ"هويتهم الدينية" هويتهم الطائفية، إلا أنه لا يستطيع استخدام التعبير؛ لأنه يعرف أن المشروع الطائفي الذي ترعاه إيران ينهار، وأن العراقيين مزقوا "هويتهم الطائفية" تلك وأحرقوها، ولن يطول الوقت قبل أن يقتلعوها من بلدهم، حكومة ومليشيات. وكذلك يفعل اللبنانيون.
لقد سقط المشروع الطائفي من أعين الناس هنا وهناك، ولم يعد للهوية الطائفية أي معنى. وذلك هو المعنى الرئيسي لتلك "الاضطرابات". فإذا ما كان من شأنها أن تعني شيئا فهو أن نظامها نفسه قد سقط، وحان وقت لملمة خرابه وفساده.
والحقيقة التي يستطيع ولا يستطيع سلامي أن يراها هي أن إيران كانت هي التي شاركت الولايات المتحدة في غزو العراق، ورعت إقامة نظام طائفي فيه، وزرعت مليشيات تولت ارتكاب شتى أنماط الجرائم والانتهاكات. وتدبرت وسائل الفساد حتى عجزت الحكومات التي أقامها الحرس الثوري في بغداد عن توفير أدنى الخدمات. وانتهى الأمر بنهب أكثر من تريليون دولار خلال أقل من عشرة أعوام من نظام المحاصصة الطائفية.
وتشير الدلائل والوثائق الى أن عملاء مأجورين يحتلون أعلى المناصب والوزارات تولوا توجيه العراق إلى أن يكون بلدا منكوبا على كل وجه، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا، حتى لكأنه أصيب بطاعون، وكان الطاعون إيرانيا بامتياز.
والفساد الذي بدأت المظاهرات بالتنديد به، والمطالبة بمحاكمة المسؤولين عنه، كان مقصودا بحد ذاته؛ لأن إيران، ولو كانت تتبنى مشروعا توسعيا، إلا أنها لم تستخدم هذا المشروع لكي تظهر كقوة بناء وإنما كقوة تخريب، فالمشروع الطائفي استهدف من الأساس تمزيق المجتمع وتحويله إلى مجتمع تناحرات دموية.. وهذا ما كان.
فقد حسبت إيران أن بلدا منهارا وذا موارد قابلة للنهب مفيد لها ولمشروعها أكثر مما لو كان بلدا مستقرا وقادرا على إعادة بناء نفسه.
حتى أن إيران لم تتصرف بالنفوذ الذي امتلكته في العراق كقوة استعمارية. بمعنى أن تكتفي بأخذ ما تريد من المصالح، وتترك الباقي. ولكنها سعت إلى تخريب كل شيء، والدخول إلى كل بيت، وتشريد أو قتل أو حرمان كل من يقف في وجهها، وكأنها في حرب ضد وجود العراق المجرد. أما الشعب العراقي فإنها لم ترغب من الأساس أن تراه شعبا، بل طوائف متناحرة.
الشيء نفسه تكرر في لبنان.
شعار "شيعة، شيعة" الذي ردده زبانية حزب الله وحركة أمل في وجه المتظاهرين كان تعبيرا عن هذا الواقع، فإيران وفيلقها الخاص في لبنان لم تكن تريد أن ترى اللبنانيين شعبا، بل مجرد طوائف متناحرة أيضا.
وإنه ليمكن تحدي حسن نصر الله أن يجرؤ على القول إنه لبناني أولا قبل أن يكون تابعا لوليه الفقيه، وإنه يضع مصالح لبنان فوق مصالح إيران، وإن هناك شعبا في لبنان لا تحده حدود طائفية.
وبمقدار ما يعرف كل إنسان فإنه لن يفعل؛ لأنه سوف يعلن بذلك وفاة المشروع الطائفي الذي ترعاه إيران، وتجنده كخادم له.
لا تحتاج السعودية، على أي حال، دفاعا، ليس لأنها لا تمتلك ولا تدعم مليشيا، بل لأنها رغم كل تحفظاتها ونقمة شعبها عما يجري في الجوار، فإنها عندما أرادت أن تقدم دعما للبنان أو العراق، فإنما قدمته بصفة رسمية وفقا للأصول والأعراف في العلاقات بين الدول.
إيران التي أخذت ولم تعط، هدمت ولم تبن، أجرمت ولم تعدل، أفقرت ولم تغن، ظلمت ولم ترحم، فإن من الغريب أن يظل فيها من يجرؤ على التنكر للمسؤولية عما فعلت، ومن أغرب الغريب من بعد ذلك أن يجرؤ مسؤول بنفسه عن معظم الخراب على أن يلقي باللوم على غيره.
إنها، والحق يقال، جرأة ما بعدها جرأة. والباطل بطبيعته وقح وجريء. حتى أن إيران لم تبق فيه مزيدا لمستزيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة