ظهرت "الدخانيات" في الواقع العراقي كوسيلة خبيثة في قمع مظاهرات الشباب السلمية
امتلأت شاشات التلفزيون والفيديوهات وقنوات اليوتيويب بمشاهد عن شباب انتفاضة تشرين؛ حيث تتصاعد من رؤوسهم وجماجمهم سحب الدخان الأبيض الملتهب، وهم ممددون على الأرض. هذه المشاهد اللاإنسانية أصبحت شائعة ومؤلمة في المظاهرات الحالية. ولعل أشهر الذين أصيبوا بهذا النوع من "الدخانيات" هو الناشط الصحفي الراحل صفاء السراي، الذي تحول إلى أيقونة لثورة الشباب، باختراق "الدخانية" لرأسه واستشهاده.
ظهرت "الدخانيات" في الواقع العراقي كوسيلة خبيثة في قمع مظاهرات الشباب السلمية، وهي تؤرخ، بلا شك، إلى مرحلة تاريخية، سوف يتذكرها العراقيون بعد انتصار ثورتهم
كلمات ومصطلحات وتعابير مثل "الدخانيات" لم يكن قد اعتادها قبل عقود مضت، وهي الآن مشّفرة، ومليئة بالألغاز والأحجية والغموض، ولا تمت إلى حضارة هذا البلد وثقافته، مما دفع منظمة مستقلة محلية في بغداد إلى القيام بمشروع مسح اجتماعي لأكثر الكلمات تداولا في الشارع، ومدى تأثير حقبة الاحتلال الأمريكي والفتنة الطائفية والنفوذ الإيراني، واحتلال تنظيم الدولة الإسلامية، ثم سيطرة المليشيات المتوحشة، على صياغة معجم العراقيين. إن التغييرات التي طرأت على المجتمع العراقي كانت للأسف سلبية وغير صحية، وستمارس تأثيراتها لعشرات السنين المقبلة. وقد أفرزت ثورة تشرين التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، هذه المصطلحات الجديدة، ومنها "الدخانيات"، وهي قنبلة لنشر الدخان في منطقة معينة، تستخدم عسكرياً للتغطية على أفراد أو آليات ومنع رؤية العدو لها، أو لتحديد مكانٍ باستخدام دخان ملّون. هذا هو التعريف العلمي لهذه القنابل الدخانية، إلا أن المسألة اختلفت منذ انطلاق المظاهرات السلمية في بغداد والمحافظات الجنوبية الأخرى. والخطير في هذا الموضوع هو أن استخدام هذه الدخانيات يتم بطريقة غير استخدامها المتداول والمعروف دولياً؛ إذ يجب إلقاؤها إلى الأعلى بعيداً عن الأشخاص، لكن المليشيات والقوات الأمنية العراقية تتعمّد ضربها في رؤوس المتظاهرين لكي تخترق جماجمهم، أو تستقر فيها ويتصاعد الدخان الأبيض منها في مشهد شبه سريالي لم يشهد له العالم مثيلاً إلا في ايران. وتؤدي "الدخانيات" عبر المخيلة المريضة لمستخدميها إلى الموت العاجل وليس إلى تفريق المتظاهرين، وهذا ما لم تقم به أسوأ البلدان استبدادا ووحشية.
لقد تجاوز صنّاع هذه "الدخانيات" المعايير الدولية في تصنيع الحجم الطبيعي المعهود، بل جعلوا وزنها عشرة أضعاف القنابل العادية التي من المفترض أن يتم رميها إلى السماء من أجل عمل الدخان الذي يؤدي إلى تفريق المظاهرات. وفي غياب المساءلة القانونية لا توجد أية ضوابط أو قوانين تحكم المليشيات أو القوات الأمنية التي تستخدمها، ويتم إطلاقها مباشرة على المتظاهرين بكل وحشيّة وبربرية.
لعل أهم ما تم توثيقه أن منظمة العفو الدولية اعتبرتها أدلة إدانة للقوات والمليشيات التي تستخدمها، وتبيّن أن منشأها هي إيران وصربيا. إنهم في حقيقة الأمر يغتالون عقول العراق النظيفة من أجل إطفاء الموجات الملتهبة الثائرة على الفساد الذي يعيشه العراقيون منذ الاحتلال الأمريكي وحتى الوقت الحاضر. ولا تتوانى السلطة في استخدام أفظع أدوات التعذيب في تاريخ البشرية: خنق المتظاهرين المصابين، وإلقاء القبض على الجرحى في المستشفيات ونقلهم إلى السجون السّرية. وهو عقابٌ مخصص لمرتكبي الجرائم وليس لهؤلاء الشباب السلميين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة، ومكافأتهم على وطنيتهم، يتم ضربهم بـ"الدخانيات" المصمّمة على غرار القنابل العسكرية الهجومية، لوزنها وتركيبتها المغايرين للمعايير الدولية، لإحداث أقصى قدر ممكن من الإصابات والقتل. وفي مواجهة هذه الدخانيات القاتلة برز من بين الشباب المتظاهر مهندسون متخصصون يطلقون عليهم "صيادو الدخانيات"، لصّدها وقنصها قبل انفجارها، ورميها بعيداً عن المتظاهرين.
إن شعارات مثل "نازل آخذ حقي" و"أريد وطن" وغيرهما أرعبت المليشيات والقوات الأمنية ودفعتها إلى الاستعانة بإيران في خبرتها باستخدام هذه "الدخانيات" التي تقمع بها المتظاهرين عندها. وعلى إثر ذلك يقوم شباب ثورة تشرين بجمع علبها الفارغة التي كُتب عليها "صُنع في إيران"، حيث ادّعت الجهات الرسمية العراقية بأن أطرافاً "غامضة" تقوم باستيرادها.
ولد هذا العنف البربري نتيجة تراكم عبر عقود طويلة، ضاعف حدته الاحتلال الذي أشاع الفوضى وانعدام الأمن والإرهاب الدموي من خلال تفكيك المنظومة الاجتماعية الثقافية السابقة، كالجيش والأمن والإعلام والمخابرات وغيرها؛ حيث وقعت ملايين قطع الأسلحة في أيدي الأحزاب والمليشيات والمافيات والمهمشين والعاطلين عن العمل وغيرهم، مما سهّل اندلاع أساليب العنف والإرهاب والصراع الطائفي تقتسم السلطة والثروة والنفوذ أحزاب المحاصصة الطائفية.
ظهرت "الدخانيات" في الواقع العراقي كوسيلة خبيثة في قمع مظاهرات الشباب السلمية، وهي تؤرخ، بلا شك، إلى مرحلة تاريخية، سوف يتذكرها العراقيون بعد انتصار ثورتهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة