كيف يمكن لمقتل سليماني أن يجعل العراق أقوى؟
التطوُّرات الراهنة منذ مقتل "سليماني" "والمهندس" تفرض على الولايات المتحدة التراجع خطوة للوراء، وتأمُّل مصالحها الاستراتيجية في العراق
فتحت عملية قتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، والذي نعتته تقارير صحفية بـ"مهندس حروب إيران بالمنطقة وقائد مليشياتها"، وأبومهدي المهندس نائب رئيس مليشيات الحشد الشعبي العراقية الموالية لطهران، الباب على مصراعيه أمام تكهنات حول اندلاع حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وإيران تتخذ من منطقة الشرق الأوسط ميدانا لها.
ورغم التكهنات تلك ظهرت العديد من المقالات والتقارير الأجنبية التي سلَّطت الضوء على ضرورة أن تعود الولايات المتحدة خطورة للوراء قليلًا كي يتسنى لها تأمُّل مصالحها في العراق، ومحاولة بلورة إطار عمل من أجل عهد جديد للشراكة الاستراتيجية مع بغداد في مرحلة "ما بعد داعش" تقضي على النفوذ الإيراني.
هنا طرح الباحث مايكل نايتس، المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية بدول الخليج والعراق وإيران، رؤيته حول أسس الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين واشنطن وبغداد في مقال نُشِر على موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بعنوان "كيف يمكن لمقتل سليماني أن يجعل العراق أقوى؟".
رضا بين الأوساط الأمريكية
مقال نايتس كشف عن حالة عميقة من الرضا والارتياح أصابت الأوساط العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، ودوائر صنع القرار في واشنطن، عقب الإعلان عن مقتل "سليماني" و"المهندس" رغم ما أبداه البعض من مخاوف لعواقب الضربة الأمريكية واحتمالية انزلاق منطقة الشرق الأوسط إلى حرب لا تُحْمَد عقباها.
ولعل مرجع حالة الرضا تتمثَّل في وجود قناعة بعدالة مصير "سليماني" و"المهندس"، فالجيش الأمريكي اضطلع بعمل دفاعي حاسم بتوجيه من الرئيس دونالد ترامب لحماية الأمريكيين في الخارج، بتوجيه ضربة عسكرية أفضت لمقتل قائد فيلق القدس السابق التابع للحرس الثوري الإيراني الذي صنَّفته الولايات المتحدة منظمة إرهابية، بالإضافة إلى عكوفه على تطوير خطط لاستهداف دبلوماسيين وجنود أمريكيين في العراق ودول المنطقة.
الباحث الأمريكي تحدث كذلك عن أنَّ الضربة العسكرية لسليماني والمهندس، المسؤولين عن سقوط المئات من الضحايا الأمريكيين وقوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، تُعَد بمثابة رداً فورياً على اقتحام سفارة واشنطن في بغداد، على اعتبار أنَّ هذا الهجوم مثَّل الحلقة الأولى في سلسلة من الهجمات التي كان يخطط لها "سليماني" ضد السفارات الأمريكية بالمنطقة.
وابتغت الضربة الأمريكية وضع حد لأي خطط إيرانية مستقبلية تستهدف رعايا ومصالح الولايات المتحدة بالمنطقة، خصوصا في ظل تعاظُم النفوذ الإيراني في العراق وتزايُد هيمنة "سليماني" على النخبة الحاكمة في بغداد، فهو الذي اختار رئيس الوزراء العراقي، وفرض عليه قيودا تمنع من تدخُّله في سلطات "المهندس" ومليشيات الحشد الشعبي.
شراكة استراتيجية جديدة
المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية تحدث كذلك عن أنَّ التطوُّرات الراهنة منذ مقتل "سليماني" "والمهندس" تفرض على الولايات المتحدة التراجع خطوة للوراء، وتأمُّل مصالحها الاستراتيجية في بغداد فقد صوَّت مجلس النواب العراقي، مطلع يناير/كانون الثاني الجاري، على قرار يُلْزِم الحكومة بإلغاء طلب المساعدة من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، والتوجُّه بشكل عاجل إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لتقديم شكوى ضد واشنطن بدعوى ارتكابها انتهاكات وخروقات خطيرة لسيادة وأمن العراق.
وعلى الرغم من أنَّ هذه التطوُّرات لا تصب في صالح الولايات المتحدة وإدخالها حيز التنفيذ الفعلي يمهِّد الطريق أمام انفراد إيران بالساحة العراقية، إلا أنَّه لا يزال هناك بصيص من الأمل يتمثَّل في الفترة الممتدة بين اتخاذ القرار وبدء إجراءات تنفيذه حتى إنهاء الوجود العسكري الأمريكية، وهي لن تقل بأية حال عن مدة عام كامل.
ويمكن للولايات المتحدة خلال تلك الفترة إقناع الجانب العراقي بفتح صفحة جديدة تستهدف إعادة الشراكة الاستراتيجية والتعاون الأمني والعسكري بين الجانبيْن باستغلال العناصر العراقية التي تريد وضع حد للنفوذ الإيراني في تقريب وجهات النظر بين البلدين، انطلاقا من وجود مصالح مشتركة بينهما، لعل أبرزها الحيلولة دون عودة تنظيم داعش من جديد.
وحسب الباحث نايتس فإن العهد الجديد من الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق يرتكز على عدة أسس وهي:
أولاً: فتح حوار جديد بين الطرفين
من الضروري أنْ يتمتع الحوار بأكبر قدر من الشفافية، حيث توضع كل النقاط الخلافية على طاولة التفاوض كي يؤسِّس الحوار لحقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية والعسكرية بين الولايات المتحدة والعراق تقوم على التفاهم المشترك وإدراك خطورة المشهد العراقي الحالي.
ويتطلَّب هذا الحوار أعلى درجات التنسيق العسكري بين أمريكا وبقية دول التحالف الدولي ضد داعش من جهة والعراق من جهة ثانية، فسواء سقط العراق بيد تنظيم الإرهابي أو أمراء الحرب من المليشيات المدعومة من إيران فسيكون المصير واحدا وهو الانزلاق إلى الفوضى وتفاقُم أعداد النازحين واللاجئين، أو بمعنى أدق تحوُّل البلاد إلى "سوريا ثانية".
ثانيا: احترام مبدأ سيادة الدولة العراقية
على دول التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أنْ تُبْدي خلال ممارساتها احترام مبدأ سيادة الدولة العراقية، صحيح أنَّ هذا الأمر سيعني مزيدا من القيود على حركة التحالف الدولي إلا أنَّه ضروري، خصوصا أنَّه سيعني بالتبعية إظهار حكومة بغداد قدرا أكبر من العدالة والإنصاف في التعامُل مع الدول الأجنبية بمعنى توقُّف العراق تدريجيا عن إعطاء مزيد من النفوذ وحرية التحرك لإيران ومليشياتها.
هنا يمكن الإشارة إلى إدانة العراق الضربات الأمريكية على كتائب حزب الله في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكنه صمت تماما إزاء إقدام الكتائب نفسها على قتل مقاول أمريكي قبل تلك الضربات بيومين فقط، وهي الحادثة التي دفعت بالولايات المتحدة إلى الانتقام.
وضرب الكاتب مثالا آخر على معاملة بغداد غير العادلة للوجود الأجنبي على أراضيها، إذ دافعت قوات الأمن العراقية عن السفارة الإيرانية ضد محتجين غير مسلحين لعدة أشهر، لكنها سمحت لمليشيات مدعومة من طهران باختراق "المنطقة الدولية في العاصمة العراقية" في غضون دقائق لمحاصرة السفارة الأمريكية واقتحامها.
وحسب المقال، إذا رأى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أن العراق يتصرف بإنصاف، فسوف يوافق بسهولة على التقيُّد بضوابط أكثر صرامة.
ثالثًا: توسيع نطاق أهداف التحالف الدولي
وأكَّد الكاتب ضرورة ألا يكون نطاق أهداف ومهام التحالف الدولي مقتصرا على محاربة تنظيم داعش الإرهابي أو ضمان عدم عودته من جديد فحسب، بل ينبغي أنْ يتسع ليشمل العمل على بناء عراق مستقر وديمقراطي، ولدى الجانب الأمريكي العديد من المقترحات التي يمكن تقديمها في هذا الصدد حال بدء جولة من الحوار مع حكومة بغداد.
وأوضح الكاتب أنَّ التحالف الدولي لديه ورقة مهمة يمكن استخدامها في التفاوض والمساومة والضغط على الجانب العراقي لإنهاء الهيمنة الإيرانية، وهي المنح المقدَّمة من قِبل التحالف لبغداد في مجال التعاون الأمني والعسكري، والتي تقدَّر بنحو 1.5 مليار دولار سنويا، فضلا عن المخاطرة بحياة ما يربو على الـ5 آلاف جندي.
ولفت المقال النظر إلى ضرورة أنْ تعي دول التحالف الدولي حجم وطبيعة التحديات التي تواجه بغداد في الفترة الراهنة، وهي تحديات غدت ذات طابع اقتصاديي بالأساس، فالعراق في حاجة الآن إلى شراكة اقتصادية واستثمارات تستهدف تنمية الاقتصاد والمساهمة في إعادة إعمار الدولة وخلق وظائف للشباب.
ولعل هذا الأمر من اليسير تحقُّقه كون التحالف يتضمن 12 دولة من دول مجموعة العشرين، ولذا يُعَد بمثابة منصة مهمة من "أصدقاء العراق" تتمتع بقوة اقتصادية لا يُستهان بها.
الباحث الأمريكي اختتم رؤيته بالتأكيد على أنَّ لقرار إنهاء الوجود الأمريكي في العراق تبعات وخيمة ستلقي بظلالها على أمن واستقرار الدولة العراقية، وعلى دول التحالف استثمار الفترة الممتدة من اتخاذ القرار حتى تفعيله في بلورة إطار عمل جديد لها يستهدف تأسيس شراكة استراتيجية جديدة مع بغداد بما يتناسب مع تحديات مرحلة "ما بعد داعش" والمتمثِّلة في بناء عراق مستقر وديمقراطي. فكل ما تريده الجماهير العراقية التي خرجت في مظاهرات ضد النظام هو سيادة حقيقية وشراكة دولية واستقرار تكفله الأجهزة الأمنية النظامية وليست مليشيات مدعومة من إيران.
aXA6IDE4LjExOC4xNDQuMTA5IA== جزيرة ام اند امز