11 سبتمبر.. كيف أثرت الهجمات على ملامح السينما الأميركية

في صباحٍ رمادي من سبتمبر/أيلول 2001، ارتجّت الأرض تحت أقدام نيويورك، وارتجّت معها ذاكرة الصورة، لم يكن المشهد عاديًا: طائرات تتحوّل إلى سهام نارية تخترق البرجين، دخان يبتلع السماء، أجساد تفرّ مذعورة. غير أن الذهول الأكبر لم يكن في هول الكارثة بقدر ما كان
ملايين شاهدوا ما يحدث وقالوا بصوت واحد: "كأننا نتابع فيلمًا". كأن الواقع لم يعد قادرًا على إنتاج صورته الخاصة، فاستعار قاموس السينما ليصف نفسه. المخرج روبرت ألتمان نطقها بوضوح جارح: "الأفلام وضعت النموذج، وهؤلاء الناس نسخوا الأفلام". تلك اللحظة دشّنت علاقة جديدة بين الحياة والشاشة: لم تعد السينما مرآةً للعالم، بل صار العالم يختبئ داخل كادرٍ سينمائي.
إخفاء البرجين في الأفلام
هوليوود، في صدمتها الأولى، لجأت إلى الإخفاء. برجا التجارة، اللذان كانا لسنوات توقيعًا بصريًا على هوية نيويورك، صارا عبئًا لا يُحتمل. أُزيل البرجان من إعلان Spider-Man، وأعيد تصوير مشهد كامل في Men in Black II ليُمحى أثرهما، وفي أفلام أخرى اختفيا من الأفق كأن المدينة لم تعرفهما يومًا. بدا وكأن السينما تحاول أن تضمد جرحها بحيلة بصرية: محو الذاكرة عبر حذف الصورة.
لكن الذاكرة لا تُمحى بالكمبيوتر. بعد سنوات قليلة، عادت هوليوود لتواجه صدمتها مباشرة. World Trade Center (2006) لأوليفر ستون أدخلنا إلى جوف الكارثة: رجال شرطة محاصرون تحت الركام، يسمعون أنين الحديد أكثر مما يرون السماء. أما United 93 لبول غرينغراس فجلس بنا داخل طائرة مخطوفة، ليجعل المشاهد أسيرًا مع الركاب حتى اللحظة الأخيرة. هنا لم تعد السينما تتظاهر بالإنكار، بل غاصت في قلب الألم، لتعيد صياغته في قصة تُروى وتُعاد.
الخيال يستعير وجه المأساة
لم يكن الخيال بمنأى عن هذه الصدمة. سبيلبرغ في War of the Worlds (2005) نقل رواية ويلز القديمة إلى أميركا مثقلة بالهواجس. الأرض التي تتشقّق وتخرج منها آلات الموت كانت صورة أخرى عن مدينة تنفجر من داخلها. العبارة الدعائية للفيلم، "إنهم هنا بالفعل"، لم تكن تخصّ كائنات فضائية، بل هواجس أميركية عن خلايا نائمة تتحرك في الظل. ولعل أكثر لحظة إيلامًا جاءت في سؤال الطفلة لوالدها المغطى بالرماد: "هل هم الإرهابيون؟".
أما كريستوفر نولان فقد منح للجوكر في The Dark Knight (2008) قناعًا جديدًا: لم يعد مهرّجًا قاتلًا، بل تجسيدًا للإرهاب الذي يضرب بلا منطق، يزرع الخوف لا ليكسب، بل ليؤكد أن لا أحد في مأمن. باتمان لم يقف في مواجهة شرير تقليدي، بل أمام معضلة وجودية: كيف تحمي العدالة من عدو لا يؤمن بالقوانين؟ هنا، تحوّل فيلم الأبطال الخارقين من تسلية ملوّنة إلى وثيقة عن أزمة أميركا في مطاردة شبح لا يُرى.
صورة العربي قبل الهجمات
وسط كل ذلك، ظل الوجه العربي على الشاشة أسيرًا لصورة وُرثت عبر عقود. في The Mummy (1999)، لم يكن سوى ظلّ لبطل أميركي يعرف التاريخ أكثر من أهله. في Gladiator (2000)، بدا القادمون من العرب سجّانين قساة بلا ملامح إنسانية. الباحث جاك شاهين كتب في Reel Bad Arabs: "ليست المشكلة أن يُصوَّر العربي كشرير، بل أن يُصوَّر دائمًا كذلك". أمّا إدوارد سعيد فقد رأى في هذه الصور استمرارًا لـ"خطاب الاستشراق" الذي يحوّل العرب إلى كاريكاتور يخدم إحساس الغرب بتفوقه. وتيم سيمرلينغ أضاف بأن تضخيم صورة "العربي الشرير" ارتبط مباشرة بأزمة النفط في السبعينيات وصعود الثروة العربية، كتعويض ثقافي عن فقدان السيطرة الاقتصادية.
الشقوق الأولى في الجدار
بعد 11 سبتمبر/أيلول، لم تُمحَ الصورة القديمة، لكنها بدأت تتصدع. في Babel (2006)، ظهر أنور المغربي كدليل كريم يرفض المال بابتسامة، صورة بعيدة عن نمط الشرير الجاهز. The Kingdom (2007) قدّم فارس، الضابط السعودي الذي بدا أبًا عطوفًا وزميلًا وفيًا، مغايرًا لصورة الإرهابي المكرسة. وفي Rendition (2007)، كان فوال محققًا قاسيًا في عمله، لكنه أب دامع في بيته. لحظة فقدانه لابنته جعلت المشاهد يرى الوجه الشرقي كإنسان ينهار، لا كقناع جامد.
Syriana (2005) كشف تعقيد السياسة والاقتصاد في الشرق الأوسط، بينما قدّم Kingdom of Heaven (2005) صورة لصلاح الدين كقائد رحيم يعيد الصليب للمذبح بوقار. تلك اللحظة على الشاشة دفعت جمهور بيروت للتصفيق، لأنهم أخيرًا شاهدوا العربي في دور "العادل" لا "المتوحش".
بين بروباغندا الحرب والمختلف
مع ذلك، ظل الاتجاه الآخر حاضرًا بقوة. American Sniper (2014) لكلينت إيستوود صوّر العراقيين كـ"سافاجز" في مواجهة القناص الأميركي الذي بدا بطلًا مطلقًا، مما جعله موضع جدل حاد بين من اعتبره دعاية ومن رآه صرخة صدق. على الضفة الأخرى، جاء The Reluctant Fundamentalist (2012) لميرا نير ليقص حكاية شاب باكستاني في أميركا، يبدأ كموظف طموح وينتهي معزولًا مطاردًا لمجرد ملامحه. بين هذين الخطين، ظل المشاهد ممزقًا: الآخر الشرقي كعدو أبدي، أو كمرآة تكشف هشاشة أميركا نفسها.
المرآة التي لا تختفي
لقد غيّر 11 سبتمبر/أيلول ليس فقط مسار السياسة، بل شكل العلاقة بين السينما والواقع. من لحظة سقوط البرجين، صار كل فيلم أميركي عن البطولة أو الإرهاب أو "الآخر" جزءًا من حوار مع تلك الصور الأولى. هوليوود لم تعد تصنع الخيال بمعزل عن الصدمة، بل صارت أسيرة لها، تعيد تدويرها في كل قصة.
أما صورة العرب، فقد خرجت من كونها ظلًا باهتًا لتصبح مرآة: مرآة لهواجس أميركا، لذنبها، لارتباكها. الوجوه على الشاشة بعد الكارثة لم تعد فقط "إرهابية" ولا تمامًا "بطولية"، بل أصبحت تجسيدًا لخوف أميركا من نفسها. وهنا تكمن المفارقة: أن السينما التي بدأت بمحو البرجين من الشاشة، انتهت إلى بناء برج جديد في المخيلة، برج اسمه "الآخر"، ينهض لا ليعكس ملامحه، بل ليكشف ارتباك الذات الأميركية في أعمق صورها.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI0IA== جزيرة ام اند امز