ظاهرة التشدد والتنظيمات العنيفة ظلت مختفية خلف قناع ظاهرة الإسلام السياسي وأبرزها أو أخطرها جماعة الإخوان.
ثمة قاعدة تحليلية في فهم وتفسير الواقع المعاش تقول: إذا أردت أن تفهم حاضرك عد أنت إلى ماضيك، وقتها سيصبح الحاضر الغامض واضحا وضوح النهار "لذا سأحاول أن أطبق تلك القاعدة في فهم بعض معضلات الحاضر المعاش التي تؤثر سلبا على مكونات مجتمعاتنا العربية وعلى مؤسساتنا وحتى ديننا وفكرنا.
إنها ظاهرة التشدد والتنظيمات العنيفة المختفية خلف قناع ظاهرة الإسلام السياسي، وأبرزها أو أخطرها جماعة الإخوان التي كانت رحما حراما فرخت لنا منظمات فكرية دموية تحت رداء "سيد قطب" وفكرته الجهنمية "الحاكمية" التي طورها عن حاكمية أبو الأعلى المودودي وجعلها تتسع لتشمل تكفير الحاكم والمجتمع والشعب، ومنها خرج كثير من التيارات العنيفة التي طورت وزادت على هذه الفكرة حتى وصلنا إلى رأس التل الحالي المتمثل في "داعش"، لكن جسد التل المخفي لا يزال يحوي كثيرا من العلل.
كثيرون أيضا في دراسة أي ظاهرة يؤمنون بفكرة السياق بكل تشعباته، السياق الزمني والتاريخي والسياسي والفكري، وهنا فكرة التطور والتراكم تصبح جلية جدا تبعا لمقاييس هذا الاتجاه.
وأنا أؤمن بالسياق الزمني أو كما أسميها البيئة الحاضنة للحدث الدائر، انطلاقا من المبدأ الطبيعي "الأشياء ابنة بيئتها" والأحداث والظواهر أيضا ابنة بيئتها؛ لذا القضية الحاسمة في فهم الحاضر بالرجوع إلى الماضي تتحدد باختيار المحطة التي تريد العودة إليها لتجد الجذر الحقيقي للظاهرة المراد تفسيرها.
كانت بداية حقبة السبعينيات المتفائلة عكس نهايتها، فثمة نبات حرام زرع في الرحم السبعيني تمثل في تربية وتثمين اتجاه فكري ديني تنظيمي عنيف، أطلق عليه في مصر الصحوة الإسلامية، وأن ما زرع في بدايته طرح في نهايته وأثمر علقما
إن معظم الذين تحدثوا ورصدوا ظواهر الإسلام السياسي -إن لم يكن جل- عادوا إلى عشرينيات القرن الماضي، ولا ضرر في ذلك فهي محطة تاريخية مهمة، لكن التاريخ يتحرك في دوائر وليس في خطوط مستقيمة كما يدعي البعض، والدليل فكرة الأفول لدول وظواهر، وفكرة الظهور لدول وظواهر أيضا.
وبالتالي حين تكتمل الظاهرة في كينونة دائريتها تنتهي وتنفتح دائرة أخرى لتبدأ في حسابات ظاهرة جديدة، والدوائر تتوالد كما الظواهر أيضا، تبعا لهذا التفسير يصبح الرجوع البعيد لحساب ظاهرة حاضرة غير صائب، فالدراسة التفسيرية لجماعة الإخوان بعد 2011 لا يمكن أن تأتي بالرجوع إلى عشرينيات القرن الماضي وقت تأسيسها عام 1928؛ لأن دائرة التأسيس انغلقت مرات عديدة مرة مع نهاية جيل المؤسسين حسن البنا ومرشدي الجماعة الذين جاءوا بعده.
وانغلقت مرة بتأسيس الجيل الثاني للجماعة، ومرة أخرى بانقسامهم إلى بنائين نسبة إلى البنا المؤسس وقطبيين نسبة إلى سيد قطب المفجر للجماعة.
النظرية نفسها أيضا تنطبق على التنظيمات العنيفة التكفيرية والمتشددة، فإذا حاولنا تطبيق هذه النظرية على داعش لا يمكن أبدا أن نعود إلى حادثة اغتيال النقراشي وتأسيس الذراع العسكرية للإخوان؛ لأن دائرة العنف الإخواني قبل كتابات سيد قطب اختلفت بعد شيوع أفكار قطب التكفيرية وبالتالي دائما ستجد دوائر تنفتح وأخرى تنغلق.
وتجد التكفير والهجرة في مصر في السبعينيات، ثم التيار السلفي الجهادي كلها دوائر عنف فتحت وأغلقت متجاوزة عنف وتكفير سيد قطب رغم أنها انطلقت منه.
من هنا وبعد بحث مضني ومقابلات مع العديد من قيادات هذه الجماعات وهذه التيارات، اتضح أن المحطة المهمة لدراسة تلك الظواهر العنيفة والإسلاموية السياسية هي محطة السبعينيات .
السبعينيات هي الدائرة الأقرب إلينا التي فُتحت ودار فيها جملة المتغيرات السياقية بكل تفرعاتها سياسيا وفكريا عربيا وعالميا أيضا، أما نهاية الستينيات فقد شهدت موت الرئيس جمال عبدالناصر، ونهاية حقبة ناصرية بكامل أيديولوجياتها باشتراكيتها وبقوميتها العربية التي ترنحت بعد هزيمة 67، وفي بداية السبعينيات تولى السادات وبدأت مرحلة ساداتية مغايرة تماما للمرحلة الناصرية في كل شيء.
في ديسمبر عام 1971 تتكون دولة الإمارات العربية المتحدة ويظهر نوع من الفكر الموحد الذي أرسى دعائمه الشيخ زايد رحمه الله، واعتبرت دولة الإمارات النموذج الحقيقي لفكرة القومية العربية الموحدة، وفكرة الوحدة العربية العضوية التي حاول عبدالناصر تطبيقها جزئيا وعضويا في الوحدة بين سوريا ومصر 1958والتي للأسف فشلت.
إن تأسيس دولة الإمارات أوجد روحا متفائلة، وأوجد بعدا تصالحيا عربيا، ولا عجب أن الخلاف السعودي المصري الذي تنامى بين مصر عبدالناصر والسعودية الملك فيصل قد تحول إلى حب وانسجام ومتبادل في السبعينيات الساداتية.
السبعينيات أيضا شهدت تمثيلا حقيقيا لاتفاقية الدفاع العربي المشترك في تشكيل جسد عربي حقيقي مقاتل تجلى في حرب السادس من أكتوبر العاشر من رمضان عام 1973، وعلى جبهة القتال في سيناء تجاور الجندي المصري مع الجزائري والعراقي والليبي. وحينها قال الشيخ زايد رحمه الله مقولته الشهيرة "النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي"، ومنع النفط عن الدول المساندة لإسرائيل.
وقامت بقية أعضاء الدول العربية المصدرة للنفط بحظر كامل للنفط فيما عرف وقتها بصدمة النفط الأولى، وقتها شعر المواطن العربي لأول مرة أن هناك أمة عربية واحدة.
كانت بداية حقبة السبعينيات المتفائلة عكس نهايتها، فثمة نبات حرام زرع في الرحم السبعيني تمثل في تربية وتثمين اتجاه فكري ديني تنظيمي عنيف، أطلق عليه في مصر الصحوة الإسلامية، وأن ما زرع في بدايته طرح في نهايته وأثمر علقما.
لم تكن نهاية السبعينيات سيئة على مستوى العالم العربي فقط بل على مستوى العالم كله، في عام 1979 قامت ثورة الخميني ضد حكم الشاه، وشهدت عودة الخميني من باريس في فبراير من العام نفسه.
في عام 1979 احتل الروس أفغانستان تحت شعار دعم الحكومة التي كانوا يساندونها، وطبعا ستستمر تداعيات هذه الاحتلال الروسي لأنه سيكون بمثابة دائرة مهمة في تفسير ظواهر العنف والإرهاب خصوصا القاعدة وطالبان؛ لأنه كان بمثابة وهم النور الذي تهاوت إليه الفراشات فاحترقت، تلك الفراشات كانت شباب الأمة العربية والإسلامية الذين قتلوا في أفغانستان تحت وهم الجهاد.
وبقيت أفغانستان منذ 1979 حتى بعد خروج آخر جندي أفغاني 1989 ساحة لتوليد كثير من التيارات العنيفة.
وفي عام 1979 كانت حادثة جهيمان العتيبي في الحرم المكي في نوفمبر من العام نفسه حين احتل هو ومن معه الحرم المكي الشريف، وطلب من الناس أن يبايعوا محمد القحطاني باعتباره المهدي المنتظر؛ إذن كانت تلك الدائرة التي فتحت في نهاية السبعينيات "بالوعة من السوء" ظلت تبعثر رزازها العكر علينا حتى الآن.
نكمل في المقال القادم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة