يعزف الراعي على (نايه) نغمة (الرواح) في الصباح لتسرح الأغنام إلى المرعى، وفي المساء يعزف نغمة (المراح)
لا أتحدث هنا عن «الراعي الحصري» أو «الراعي الفضي» أو حتى عن «الراعي والرعية».. إلخ.
أتحدث عن أناس فقراء وبسطاء، اتخذوا «الرعي» مهنة متواضعة لكسب عيشهم، رعي الأغنام وأمثالها من حيوانات المراعي الأليفة، وهي أيضاً كائنات ضعيفة ووادعة.
الراعي الصالح.. (ونايه) هما من شغاف القلب والطمأنينة والمحبة والرحمة، وكلما مر بي صوت الناي في أحلامي «سمعت صدى صوت أمي يناديني»
كان يستوقفني في مرحلة الصبا مشهد الرعاة في المروج الخضر، وظل معي في الذاكرة صوت الناي الذي يعزف عليه الراعي، ويرافقه دوماً.. ونسمعه في المراعي، وهو يتلاشى رويداً رويداً، كلما اقترب الراعي من صخب المدينة.
قرأنا ونحن أطفال قصة «الراعي الكذَّاب» الذي طلب النجدة من أهل قريته ليخلصوه هو وقطيعه من ذئب مفترس، فيجتمع أهل القرية حاملين عصيهم وأسلحتهم لقتل الذئب، لكنهم يكتشفون أن الراعي كذب عليهم، فيعودون أدراجهم غاضبين على الراعي، وتتكرر القصة مرة ثانية وبالسيناريو نفسه، لكن في هذه المرة يهاجم الذئب القطيع فعلاً، فيستنجد الراعي بأهل قريته، لكنهم لم يصدقوه، وتركوه يواجه مصيره فريسة للذئب.. تعلمنا من هذه القصة ونحن أطفال ألا نكذب.
يعزف الراعي على (نايه) نغمة (الرواح) في الصباح لتسرح الأغنام إلى المرعى، مطمئنة في سيرها.. وفي المساء يعزف نغمة (المراح) لتعود الأغنام إلى حظيرتها آمنة مطمئنة.
شاهدت الراعي في أرياف عربية وغير عربية، وهو يضع الناي على جانب فمه وينفخ الهواء، ويحرك أنامله بمهارة على فتحات (نايه) المصنوع من الخيزران أو نبات القصب البري، ويطلق ألحاناً وآهات شجية، تتعانق مع نسائم الحقول الزراعية، ورائحة أشجار السرو والتين، وأزهار برية مختلف ألوانها.
تبدو الحياة في رحلة الراعي اليومية بطيئة، ويؤنسه الناي حينما تستريح (خرافه) في كسل فوق أعشاب الطريق، ويترك (نايه) يحكي لقطيعه قصة حزينة، وأخرى عن فراشات تطير بين الينابيع والشمس، وعن عصافير مهاجرة لا تُجفل فوق خرافه.
قيلت في الراعي و(نايه) قصائد كثيرة لشعراء كبار، من أمثال الشاعر إبراهيم ناجي صاحب القصيدة الشهيرة (الأطلال) التي غنتها أم كلثوم، وهو الذي قال في مطلع قصيدته (دعاء الراعي):
يا أيها الحمل الوديع أنا الذي
يحنو عليك.. أنا الحبيب الراعي
كم ليلة والرعب يمشي في الدجى
والهول منتشر على الأصقاع
وقال الشاعر الكبير الجواهري في الراعي: «يا راعي الأغنام أنت أعز مملكة وأعلى».
وقال شاعر آخر هو حبيب الزيودي في ديوان له بعنوان «ناي الراعي»: «كلما غابوا بكى الناي وأبكاني».
وهناك مقطوعة موسيقية، لها شهرة عالمية منذ سبعينيات القرن العشرين، ألفها الموسيقار الألماني (جيمس لاست)، وسجلها فنان روماني، كان في صباه راعياً للأغنام، اسمه (جورج زامغير)، وأطلق على المقطوعة الموسيقية اسم (الراعي الوحيد)، والتي عزفت على آلة موسيقية قديمة هي (الفلوت) وتذكرني دوماً كلما سمعتها بقصة الحب الذي لا ينتهي بين الراعي والناي.
تذكرت الراعي والناي والخراف، وأنا أقرأ كتاب «المسيح في البلاد العربية»، لمؤلفه الصديق القس (أندرو تومسون) كبير القساوسة في كنيسة (سانت أندرو الإنجيلية) في أبوظبي.
قارن القسيس أندرو، في كتابه، بين الراعي الإنجليزي (الغربي) والراعي الشرق أوسطي (العربي)، في تعاملهما مع قطيع من الخراف، فالأول «لا يرتبط بالأمان والمحبة لدى الخراف، وإنما هو شخص يُسِّلط عليها الكلاب، ويدفعها إلى الذهاب إلى مكان لا تريده بالتهديد والتخويف، بواسطة نباح الكلاب وعوائها وأنيابها».
ويضيف قائلاً: «في حين أن الراعي الشرقي العربي (أمثلة من الأردن والكويت) يتهادى خلف قطيعه من الخراف، وكلما تسكع أحد الخراف، وأمضى وقتاً أطول من اللازم في الرعي، تنبه الراعي ونادى على الخروف باسمه، فيعاود تقدمه مع بقية الخراف، وهي الخراف التي تألف صوت الراعي و(نايه) وأجواء الأمن والمحبة التي يمنحها إياها».
يقول القس أندرو «إن مفاهيم كثيرة تغيب عن المسيحيين في الغرب عند قراءتهم نصوص كتبهم المقدسة، لأنهم لم يعيشوا في الشرق الأوسط، إن العيش في منطقة الشرق الأوسط أحيا بداخلي العديد من القصص الواردة في هذه الكتب، وأبرزها صورة الراعي الشرق أوسطي (العربي)، التي أراد الكاتب الأصلي لنصوص العهد القديم (خاصة المزمور 23) أن يشاركنا إياها».
ويضيف القس أندرو «صورة الراعي في الرؤية الغربية هي صورة الراعي الإنجليزي المتنمر والمخيف والمسيطر، في حين أن صورة الراعي في (الكتب المقدسة) هي صورة الراعي (العربي) المحب والحنون والأمين والرحيم».
الراعي الصالح.. (ونايه) هما من شغاف القلب والطمأنينة والمحبة والرحمة، وكلما مر بي صوت الناي في أحلامي «سمعت صدى صوت أمي يناديني».
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة