الخطوة التركية تتبع منهج إيران في بناء أذرع عسكرية تابعة على أسس طائفية وأيديولوجية
لا يمكن تصديق المبررات والتحليلات التي تروِّج لها تركيا لإنشاء قاعدتها في الصومال، من قبيل تعزيز صورتها العالمية فيما يخص مشاركتها في الحرب على الإرهاب، أو رغبتها في إنشاء جيش صومالي قوي يتصدى لـ"حركة الشباب" الإرهابية، أو حتى منافسة القوى الدولية التي أنشأت قواعد لها في الصومال، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا واليابان والصين.
ويمكن أن نقدم نموذجاً لاستهانة تركيا بالعقول في بعض الدوافع التي يُعلنها مسؤولوها بشأن هذه الخطوة. وعلى سبيل المثال، فقد نشر موقع "هابر 7" المؤيد لحكومة تركيا تصريحات لمصدر دبلوماسي تركي، تحدث فيها عن "الانفتاح في مجال الصناعات الدفاعية على خارج البلاد"، وأن "تركيا تبحث عن أسواق جديدة لبيع الأسلحة التي تقوم بإنتاجها". فإلى أي قدر من الغفلة نحتاج لنصدق أن الصومال سوق محتملة للأسلحة التركية؟! وما الذي تمتلكه دولة كالصومال من ثروات مالية تغري تركيا بالاستثمار العسكري فيها؟!
الخطوة التركية تتبع منهج إيران في بناء أذرع عسكرية تابعة على أسس طائفية وأيديولوجية، فالقاعدة التركية تضم مدارس عسكرية ستتولى مهمة تخريج ضباط الجيش الصومالي ومنتسبيه، وستحرص على تنشئة جيش ذي صبغة عقائدية، يدين بالولاء لأنقرة ويتشرب أفكار جماعة "الإخوان المسلمين" الإرهابية
وبالقدر نفسه لنا أن نشك في حقيقة نية تركيا مكافحة الإرهاب، لأن تركيا ذاتها أكثر من تحيط به الشكوك في إنشاء "داعش" وتوفير التمويل لها، وتسهيل تجنيد المقاتلين فيها، وإيجاد ملاذات وممرات آمنة تنقلهم إلى ساحات المعارك في سوريا والعراق. والأقرب إلى التصور، انطلاقاً من دراسة السلوك التركي السابق، أن "حركة الشباب" الإرهابية قد تتحول إلى ورقة تستغلها تركيا لأهدافها، وفي الوقت الذي تحدَّده.
إن البحث وراء الأسباب الحقيقية لبناء القاعدة التركية في الصومال، يقودنا إلى السياق الذي تتصرف من خلاله تركيا منذ فشل مشروع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ثم فشل استراتيجية "صفر مشاكل" مع دول الجوار، إذ تمخضت هذه الاستراتيجية بعد نجاح قصير ومؤقت عن مشكلات مع كل دول الجوار التركي وحتى مع أكرادها الذين تعرضوا للقمع والاضطهاد. كما كان الفشل مصير نزعات الزعامة للمناطق المحيطة بتركيا، سواء مع دول آسيا الوسطى، أو العالم العربي الذي رفض بقوة إحياء فكرة "العثمانية الجديدة" القائمة على الهيمنة. ولم تحقق تركيا أي نجاح في الاقتراب من زعامة "العالم السني" على النحو الذي حاولت تحقيقه في رهاناتها الفاشلة المتوالية.
لقد توصلت تركيا أردوغان إلى أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق أهدافها في إخضاع العالم العربي لهيمنتها تكمن في إضعاف الدول العربية وهدمها، أو إنهاكها إلى أقصى حدٍّ ممكن ليصبح اختراقها يسيراً، وهو ما كرست أنقرة جهودها له منذ عقد من الزمن. والتقى التفكير التركي تماماً مع التفكير الإيراني في هذا الجانب، وباعتبار أن الخطة الإيرانية أقدم، فقد استعار أردوغان والعثمانيون الجدد كثيراً من الآليات التي اتبعتها إيران بدأب، يدعمهم في ذلك "جماعة الإخوان المسلمين" التي لا ترى لها مستقبلاً إلا في هدم الدولة العربية وتفكيكها، لتتمكن من القفز على السلطة فيها، برعاية تركية هذه المرة. وكانت الدول العربية القوية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر هي الهدف الأهم من وجهة النظر التركية. ووفَّر ما سُمي "الربيع العربي" فرصة للعربدة التركية في المنطقة، حيث كشف أردوغان وتابعوه عن وجوههم القبيحة دون مواربة.
لقد استعارت تركيا من إيران استراتيجية "التطويق"، فكما سعت إيران إلى حصار السعودية من خلال عراق المالكي الطائفي من الشمال، والحوثيين في الجنوب، وتحقيق اختراق في مجلس التعاون بتحريك جماعات الإرهاب لإسقاط البحرين، فإن تركيا فعلت الشيء نفسه، إذ حاولت حصار السعودية بإسقاط سوريا وإقامة نظام تابع لأنقرة فيها، واختراق مجلس التعاون من خلال قطر، ليكتمل التطويق من الصومال بافتتاح قاعدة عسكرية في منطقة حيوية للأمن القومي السعودي يمكن استغلالها ضد الرياض وتهديدها بقوة في الوقت الملائم، كما ستكون مدخلا للتأثير في الوضع اليمني وتحقيق مكاسب تدعم فكرة تطويق السعودية.
ويمكن أن نجد تطبيق الخطوات ذاتها مع مصر، بحصارها من غربها بليبيا المحطَّمة المصدِّرة للفوضى والإرهابيين، ومن شرقها بإرهاب "داعش" وتواطؤ "حماس"، ومن جنوبها بمحاولة استتباع السودان وتحريك بقايا الإخوان المسلمين فيه، ومن داخلها بتحريك عصابات "الإخوان المسلمين" وحلفائها من تنظيمات الإرهاب على اختلاف مسمياتها. والوجود العسكري التركي في الصومال، بالقرب من مضيق باب المندب، يدخل كذلك ضمن محاولات تطويق مصر، من خلال التمركز العدائي التركي في منطقة حيوية لأمن مصر القومي.
الخطوة التركية تتبع أيضاً منهج إيران في بناء أذرع عسكرية تابعة على أسس طائفية وأيديولوجية، فالقاعدة التركية تضم مدارس عسكرية ستتولى مهمة تخريج ضباط الجيش الصومالي ومنتسبيه، وستحرص تركيا على تنشئة جيش ذي صبغة عقائدية، يدين بالولاء لأنقرة ويتشرب أفكار جماعة "الإخوان المسلمين" الإرهابية، بحيث يفرض إرادته على سياسيي الصومال بحكم امتلاكه القوة، ويصبح ذراعاً أمامية لتنفيذ المخططات التركية، وعلى غرار حزب الله في لبنان الموالي لإيران سيتحول هذا الجيش المُدرَّب إلى تنظيم إرهابي صريح عندما تقتضي المصالح التركية، يهدد أمن الملاحة البحرية في المنطقة كما يهدد اليمن والسعودية ودول الجوار الإفريقي.
ليس صعباً تحديد الدوافع التركية إذا وًضعت في سياقها الصحيح، وعلى الرغم من أنه لا يمكن استبعاد وجود أهداف ذات طابع يتعلق بحسابات خاصة بعلاقات تركيا بالقوى العالمية، فإنها تظل هامشية ومحدودة إذا قيست بالهدف الأوضح والأبرز، وهو التمدُّد التركي على حساب الدول العربية، واستهداف مكامن القوة في العالم العربي، وإضعاف الأطراف الفاعلة والمؤثرة بكل السبل الممكنة.
ويقودنا ما سبق إلى النتيجة التي نراها واضحة لمن يريد أن يرى، وهي أن تركيا الأردوغانية لا يمكن أن تكون حليفاً أو صديقاً، وأن كل المحاولات لاحتواء أطماعها عربياً من خلال تحقيق مصالح سياسية واقتصادية مشتركة كانت تبوء بالفشل، وتؤدي فقط إلى مزيد من إحساس تركيا بأن لها اليد العليا، وأن الدول العربية تستجدي رضاها، مما كان يغذي نزعات التغوّل والتنمّر. وكان الدور القطري في تحقيق هذه الاستراتيجية مباشراً ومؤثراً، وهو ما جعل مواجهته بحسم ضرورة ملحة لحفظ الأمن القومي الخليجي والعربي. وهذا الفهم للقضية، ووضع التحرك التركي في سياقه الذي أوضحناه، يفرضان التحرك بكل قوة لمواجهته خليجياً وعربياً، ودون تأخير، لأن المشروع التركي على النحو الذي يتصوره واضعوه وسدنته ومناصروه، لا يمكن له أن يتم إلا على جثة الدولة العربية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة