الحرب التجارية الكورية اليابانية.. الأسباب والتداعيات
تتداخل الأبعاد والعوامل السياسية مع نظيرتها الاقتصادية والتاريخية والأمنية في الحرب التجارية بين اليابان وكوريا الجنوبية.
تتعلق أنظار الملايين في كل من اليابان وكوريا الجنوبية بمتابعة مجريات ونتائج مباحثات رئيس الوزراء الكوري لي ناك يون مع شنيزو آبي رئيس وزراء اليابان على هامش مشاركة كوريا في حفل استكمال مراسم تنصيب الإمبراطور الجديد ناروهيتو على عرش اليابان، والتي تتعلق ببحث سبل وطرائق خفض التوتر التجاري والسياسي والاقتصادي المتصاعد بين الدولتين والرجوع بالعلاقات بينهما لمسارها الطبيعي.
- جذور الحرب بين البلدين
تتداخل الأبعاد والعوامل السياسية مع نظيرتها الاقتصادية والتاريخية والأمنية لهذه الحرب، وهو ما يحول دون تحديد السبب المباشر والصريح لهذه الحرب. فوفقا للعامل التاريخي ترجع جذور هذه التوترات المعقدة بين البلدين لعام 1910، حيث احتلت اليابان شبه الجزيرة الكورية – بشطريها الشمالي والجنوبي- وممارساتها الاستعمارية فيما يتعلق بتشغيل الآلاف من العمالة الكورية بالسخرة ودون أجر في المصانع والشركات الكبرى اليابانية، وهي الممارسات التي أدت لوفاة وإصابة المئات منهم.
وعقب استسلام اليابان في عام 1945 لقوى الحلفاء بدون شروط ونهاية الحرب العالمية الثانية، وخضوعها للاحتلال الأمريكي، واندلاع الحرب الكورية والتي أدت في نهاية المطاف إلى انقسام شبه الجزيرة إلى كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية في عام 1955- اتجهت الدولتان للتفاوض لتسوية المشكلات العالقة بينهما وتطبيع العلاقات الثنائية، وطرحت كوريا الجنوبية في جلسات التفاوض قضية الأجور غير المدفوعة للعمال الكوريين.
واتفق البلدان في اتفاقية مشتركة وبروتوكول منفصل في عام 1965 تحت اسم "اتفاق تسوية المشاكل المتعلقة بالممتلكات والمطالبات بشأن التعاون الاقتصادي بين اليابان وجمهورية كوريا" على قيام اليابان بدفع 300 مليون دولار لكوريا الجنوبية تنفيذا للتسوية الكاملة والنهائية لكافة المطالبات العالقة لأجور العمل الخاصة بالعمال الكوريين الذين لم يحصلوا على أجورهم من الشركات اليابانية واشترطت اليابان على كوريا عدم المطالبة بأية مستحقات أو مطالبات مالية أخرى في المستقبل، بالإضافة إلى تقديم اليابان لكوريا 200 مليون دولار في شكل قروض تفضيلية.
غير أن الحكومة الكورية ونظرا للأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها وقتئذ قررت استخدام هذه الأموال في تشييد وإقامة مشروعات الأشغال العامة والبنية التحتية، وخصصت فقط 20% من هذه الأموال لإقامة صندوق تعويض للعمال الكوريين في عام 1971، ما أدى إلى عدم تلقي المئات من هؤلاء العمل لكامل مستحقاتهم وهو ما دفعهم لخوض معارك قضائية كثيرة في أروقة المحاكم اليابانية والأمريكية والكورية انتهت بحكم شهير للمحكمة العليا في كوريا في عام 2012 وجرى تأييده من المحكمة الدستورية الكورية التي أكدت أن الاتفاق بين الدولتين لم يتضمن تعويضا للعمالة عن أضرار الاحتلال اليابانى التي لحقت بهم وإنما اقتصرت على دفع الأجور الخاصة بهم دون الأضرار النفسية والمالية.
طالبت الحكومة اليابانية نظيرتها الكورية بتسوية هذه القضية مع مواطنيها بموجب التعويضات التي دفعتها اليابان في وقت سابق، غير أن الحكومة الكورية اقترحت قيام الشركات اليابانية مجتمعة بتأسيس صندق تعويضات للعمالة الكورية برأسمال مليار دولار يتم من خلاله تعويض كل عامل أو أسرته على حدة دون التدخل منها في هذا الشأن، وهو الأمر الذي تعتبره اليابان تهديدا لاستثمارات شركاتها في كوريا الجنوبية خاصة بعد وضع محامي المدعين أيديهم على أصول هذه الشركات في كوريا الجنوبية بعد استصدار أوامر من محاكم محلية كورية وهددوا ببيعها إذا ما استمرت الشركات في رفضها الجلوس للتفاوض بشأن التعويضات، ما دفع طوكيو إلى رفض كافة الأحكام القضائية السابقة علاوة على رفضها أيضا المقترح الكوري بشأن تأسيس صندوق للتعويضات.
* التصعيد الياباني بتقييد الصادرات اليابانية لكوريا: في بداية يوليو/تموز 2019 قامت الحكومة اليابانية بفرض عدة قيود على الصادرات اليابانية التي تستخدمها شركات تصنيع الشرائح الإلكترونية والهواتف الجوالة في كوريا الجنوبية، وتشمل هذه القيود: الحد من تصدير ثلاث مواد كيميائية تدخل في صناعة أشباه الموصلات، ومنع نقل تكنولوجيا التصنيع الخاصة بالمنتجات عالية التكنولوجيا، وهو الأمر الذي يفرض على المصدرين اليابانيين الخضوع لإجراءات طويلة ومعقدة لتصدير منتجاتهم لكوريا الجنوبية منها تقديم طلب إذن لكل دفعة على حدة ينوون تصديرها إلى كوريا الجنوبية في عملية تستغرق نحو 90 يوماً في كل مرة.
وقد أدى تشديد القيود على الصادرات من المواد عالية التقنية المستخدمة في أشباه الموصلات والهواتف الذكية، إلى إبطاء عملية التصدير الخاصة بالشركات اليابانية لأشهر عدة، كما كانت له آثار سلبية على إنتاج وأرباح شركات تكنولوجيا كورية جنوبية عملاقة مثل شركة سامسونج إلكترونيكس وشركة إس كيه هاينيكس وشركة إل جي إلكترونيكس. وفى بداية أغسطس/آب 2019، قامت الحكومة اليابانية أيضا بحذف كوريا الجنوبية من القائمة البيضاء الخاصة بالشركاء التجاريين الموثوق بهم، واستندت اليابان في قرارها إلى أن هذه الخطوة ضرورية لمنع انتقال المواد الحساسة المستخدمة في التكنولوجيا اليابانية الفائقة والمصدرة لكوريا الجنوبية إلى كوريا الشمالية بصورة غير شرعية، بهدف استخدامها في الصناعات العسكرية على النحو الذي يضر بالأمن القومي الياباني.
وقد وصفت كوريا هذه الإجراءات بأنها غير منصفة وتشكل انتهاكاً للقوانين الدولية، وفرضتها اليابان كوسيلة "للانتقام الاقتصادي" من كوريا التي أعلنت التزامها بتطبيق حكم المحكمة العليا في كوريا الجنوبية بشأن التعويض عن العمل القسري في زمن الحرب، كما قررت الحكومة الكورية التقدم بشكوى ضد الإجراءات اليابانية لدى منظمة التجارة العالمية والتي تتعارض مع مبادئ التجارة العالمية الخاصة بحصول كافة الدول على الامتيازات التي تقدمها بعض الدول لدول أخرى فى إطار التجارة الثنائية بينهما.
ومن جانبها، ادعت الحكومة اليابانية أن الإجراءات المتخذة للحد من بعض الصادرات اليابانية لكوريا الجنوبية لم تكن انتقاماً من أحكام المحاكم الكورية بشأن قضية عمال السخرة الكوريين وإنما هي نتيجة توصية قدمتها الوزارات المعنية بالتجارة الخارجية والصناعية والمالية.
وقبل نهاية أغسطس/آب 2019، قامت الحكومة الكورية الجنوبية بوقف العمل باتفاقية مشاركة المعلومات الاستخباراتية والأمنية مع اليابان، وأكد المسؤولون الكوريون أن هذا القرار يجيء ردا على قرار اليابان تخفيض مستوى وضع كوريا في العلاقات التجارية، ما أدى إلى تغيير جذري في مستوى التعاون الأمني بين البلدين، بينما اعتبر تارو كونو وزير الخارجية الياباني الخطة بأنها "تقييم خاطئ للظروف الأمنية الإقليمية الراهنة"، وقال إن بلاده سوف تحتج بشدة لدى الحكومة الكورية بسبب قرارها، وهو ما تم بالفعل حيث قامت الخارجية اليابانية في نهاية أغسطس/آب 2019 باستدعاء سفير كوريا الجنوبية لدى اليابان والتعبير له عن احتجاجها ورفضها لهذه الواقعة التي تجيء في خضم تزايد التهديدات الأمنية التي تمثلها كوريا الشمالية لليابان.
- تداعيات الحرب التجارية على اقتصاد الدولتين
أدت القرارات الاقتصادية اليابانية والكورية السالف ذكرها إلى حدوث عدة تداعيات وآثار سلبية على النشاط الاقتصادي في كل منهما شملت تراجع النمو الاقتصادي وانخفاض قيمة الصادرات الخارجية وانخفاض معدلات التشغيل والتوظيف وتراجع مبيعات السلع عالية التكنولوجيا وزيادة معدلات التعثر المالي للشركات في سداد القروض والمديونيات الخاصة بها. لذا تدخلت الحكومة الكورية لحماية اقتصادها من التأثيرات السلبية للحرب التجارية مع اليابان بوضع وتنفيذ خطط وبرامج إنقاذ شملت: إقرار وتخصيص -بعد موافقة الجمعية الوطنية لكوريا الجنوبية- ميزانية تكميلية بقيمة 2‚237 مليار وون "حوالي مائة مليون دولار" فيما يعد إعانة حكومية للشركات المتضررة من الإجراءات اليابانية تساعدها في حشد وتهيئة المواد وأدوات الإنتاج المحلي لأجزاء ومواد أشباه الموصلات وذلك لحين استئناف الشركات الكورية الجنوبية استيراد هذه الأجزاء والمواد المطلوبة من اليابان مرة أخرى، وكذلك مساعدة الشركات الكورية في عملية شراء قطع الغيار والمواد اللازمة للصناعات الكورية من السوق العالمي- والتي تكون عادة أقل جودة مما يمكن أن توفره اليابان- وبالتالي تحميل الشركات الكورية تكاليف إضافية لتغطية المنتجات الكورية التالفة. لذا تعد هذه المساعدات الحكومية الكورية الجنوبية الوسيلة الوحيدة لتغطية التكاليف الإضافية والضرورية التي تتحملها الشركات الكورية للالتفاف على الحاجة إلى الاستيراد من اليابان. وقد أعلنت لجنة الخدمات المالية الكورية الجنوبية، المكلفة بتنفيذ برنامج الدعم والمساندة المالية عن قيامها بتشكيل فرقة عمل خاصة مع غيرها من المؤسسات المعنية لدعم الشركات الكورية الجنوبية التي تأثرت بالقرارات اليابانية. وأوضحت اللجنة في تقرير نشرته في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2019 قيامها بتقديم حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2019 دعما ماليا بقيمة 800 مليار وون (ما يعادل 665 مليون دولار) للشركات الكورية المتضررة من القرارات اليابانية، جاء معظمها في شكل قروض جديدة وتمديد فترة استحقاقات القروض والديون الخاصة بهذه الشركات.
على الرغم مما تمثله هذه المخصصات المالية الإضافية لدعم الشركات الكورية من عبء ثقيل على الاقتصاد الكوري الجنوبي غير أن الحكومة الكورية الجنوبية تحت ضغط الرأي العام على استعداد لتحمل هذا العبء دون التفريط في حقوق و"كرامة" عمالها لدى الشركات اليابانية إبان فترة الاحتلال.
أما اليابان التي تقلصت قيمة صادراتها الخارجية لكوريا بنحو 15% ومع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين بحوالي 19% في النصف الأول من عام 2019 – لم تجد مفراً من ابتكار وسائل وأدوات مالية جديدة لزيادة إيراداتها المالية التي تقلصت بسبب تراجع قيمة الصادرات الخارجية، ومن أبرز الإجراءات: تطبيق زيادة تأجلت مرتين في ضريبة المبيعات من 8% إلى 10% في أول أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وعلى الرغم من اعتبار البعض هذا القرار خطوة ذات أهمية حيوية لإصلاح المالية العامة المتهالكة في البلاد، فإنها قد تدفع الاقتصاد المتضرر من الحروب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان وبين الولايات المتحدة والصين وبين اليابان وكوريا الجنوبية إلى ضعف الطلب الداخلي والطلب الخارجي على السلع اليابانية الذي يتطور في مرحلة تالية إلى الركود الاقتصادي خاصة بعد تسجيل الاقتصاد خلال الربع الأول والربع الثاني من عام 2019 تراجعا في معدل النمو الاقتصادي بلغت نسبته 29‚00% و30‚00% وهو ما يقل بنحو النصف عما كان عليه هذا النمو في عام 2018 فيما يطلق عليه "الركود الفني"، والذي يُعرف بتسجيل انكماش لربعين متتاليين في ذات السنة المالية.
ويتوقع خبراء الاقتصاد في الدولتين تراجع التجارة الخارجية بشقيها الصادرات والواردات في عام 2019 بمعدل يتراوح بين 20 و25% عما كانت معدلات هذه التجارة في عامي 2017 و2018، والتي يسهم فيها إلى جانب الحرب المتصاعدة بينهما وقوف الولايات المتحدة على الحياد بين الدولتين الحليفتين لها في منطقة شرق وشمال شرق آسيا، وفي أحيان كثيرة قامت بممارسة الضغوط عليهما فى مجالي: خفض التعريفات والرسوم الجمركية المفروضة على السلع الأمريكية وفي مقدمتها صناعة السيارات والمنتجات الزراعية ومنتجات اللحوم الأمريكية وبما يؤدي إلى خفض العجز في الميزان التجاري الأمريكي معها، وزيادة مساهمة اليابان وكوريا في تكاليف نفقة قوات الحماية الأمريكية الموجودة على أراضي الدولتين وتخفيض الأعباء المالية الدفاعية على الموازنة الأمريكية؛ علاوة على مطالبة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للدولتين بتحمل نفقات الدفاع عن سفنهما التي تقوم بنقل البترول إليهما من منطقة الخليج العربى.
مما سبق، نخلص إلى أنه لا توجد مؤشرات إيجابية على احتمال تحسن العلاقات التجارية بين الدولتين في القريب العاجل، حيث من المتوقع استمرار كوريا الجنوبية في مطالبة اليابان بالتراجع عن قرارها بتشديد الرقابة على الصادرات، وهو أمر من غير المرجح أن تفعله اليابان ما لم تقم الحكومة الكورية بحل مشكلة تعويضات العمالة الكورية.
كما أنه من غير المحتمل أن تتخذ كوريا الجنوبية أية إجراءات دون أن تبدي اليابان أولاً استعدادها لإعادة النظر في سياساتها لمراقبة الصادرات. وبالتالي سيستمر الجانبان في ذات الطريق المسدود، ما يؤدي إلى تآكل واستمرار تراجع العلاقات الاقتصادية بينهما في المستقبل المنظور.
aXA6IDE4LjIyMy4yMTMuNzYg
جزيرة ام اند امز