الحراز السودانية.. حكاية شجرة تخاصم المطر ولا تزهر في الخريف
"الحراز" شجرة شوكية معمّرة، يصل طولها إلى 30 مترا، يتغير لحاؤها كل عام، ويكون لون الأوراق الجديدة رماديا، ويتحول إلى الاخضرار تدريجيا.
ارتبطت شجرة الحراز في وعي السودانيين في الأرياف بخصامها الأزلي مع المطر، فعلى غير المعتاد تخضر كل الأشجار والمراعي في البوادي والأرياف في موسم الأمطار أو الخريف كما يسميه السودانيون، إلا شجرة الحراز تأبى وحدها أن تنال من خيراته.
فشجرة الحراز هي الشجرة الوحيدة في السودان وأفريقيا التي تنفض وتسقط وتفقد أوراقها في موسم الخريف، وتبرز أسلحتها الفسيولوجية في وجه المياه الفائضة من النيل والمنهمرة من السماء.. لتخضر عندما يتوقف المطر وينحسر النيل، وتبقى طوال موسم تساقط الأمطار غريبة المنظر عارية من الأوراق مؤكدة خصامها مع المياه.
ويعتقد أن موطن الشجرة الأصلي هو السودان وغرب أفريقيا، وهي شجرة شوكية معمرة يمكن أن يصل طولها إلى 30 مترا، ويتغير لحاؤها كل عام ويكون لون الأوراق الصغيرة الجديدة النمو رماديا، ويتحول إلى الاخضرار تدريجيا، ولها أشواك يصل طولها إلى 2 سم.
وتأتي أهمية الحراز في البيئة السودانية من خاصيتها في طرح أوراقها في موسم الأمطار، مما مكن المزارعين من فلاحة محاصيلهم مختلطة بها، مستغلين خلوها من الأوراق وتفادي عدم منافستها للمحاصيل على مياه الأمطار،. كما يوفر اكتساء الشجرة بالأوراق والثمار في فصل الجفاف الظل والغذاء للحيوانات التي تكون في أشد الحاجة إليهما في فترة الجفاف.
استلهم السودانيون ظاهرة شجرة الحراز "الفسيولوجية" في حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم، كما نقلوها إلى ميادين الشعر والدراما والقصة وحتى الفن التشكيلي، فبات يوصف الشخص الفاجر في الخصومة بأنه (حراز)!
أو أن يقول الشخص المتخاصم مع أحد الأشخاص: "ما بيني وبين فلان ما بين الحراز والمطر"، مؤكدا حدة ما بينهما من خصام.
وتمثّل السودانيون علاقة الحراز مع المطر وأسقطوها على الواقع الاجتماعي لحيواتهم، وصاروا يعدون طباع الشخص (الحراز) نوعا من مفارقة الحكمة وإبداء اللامعقول في الخصام وشكلا للتعامل المعوج مع حقائق الأشياء خصوصا وقد طبع السودانيون علاقاتهم الاجتماعية بنوع من التآلف والمحبة الصافية.
ويحفل الشعر السوداني الشعبي الممزوج بالعامية السودانية بالعديد من القصائد التي تفيض روعة بكراهية الخصام والبعد عن المحبوب وافتعال الخصام، والتي تتخذ من ظاهرة الحراز، وتحديه للمطر سمة أساسية في بناء القصيدة.
فيطلب الشاعر في هذه القصيدة من المحبوب (مستلهما حالة الحراز) بأن يعلن نهاية حالة الخصام والجفاء وأن يسمح بعودة الوصال فيقول:
"قوم يا حراز وادخل مكان كل اشتهاءاتك مجرتقه بالفرح
مدخورة ليك
والليل زفاف
واقف علي بابك بشارة
قوم ياحراز
ورقك هويتك وانتماءك
خلي المطر ينزل عليك واكبر عليه
راقد على رمل الضفاف والنيل رحل"
ويخاطب شاعر العامية الأشهر في السودان محمد الحسن سالم حميد في رمزية بائنة محبوبته الأنثى أو الوطن إبان مرحلة انتشار المدرسة الرمزية التي فرضت سيطرتها على المشهد الشعري السوداني في السبعينيات.
فيقول الشاعر في ثنايا القصيدة في رمزية واضحة تشير إلى الزمن أو المحبوبة طالبا من الزمن أن يغير من ملامحه فرياح المنغصات أوشكت على الرحيل إلى الأبد لكي تتزين الحياة بعدها انتظارا لقدوم العصافير، وتحولت القصيدة لاحقا إلى إحدى أجمل أغنيات الفنان السوداني الراحل مصطفى سيد أحمد، حيث تقول كلماتها:
"صُدْ لى ملامحك يا حراز
ريح العوارِض ... غرّبتْ
فرتِق ضفايرك .. فى الرزاز
جية العصافير"
ولم يقتصر حضور شجرة الحراز بكل حكاياتها وتفاصيلها الساحرة على المشهد الشعري بل أناخت بكل حضورها المهيب في الدراما السودانية وأنطقت هذه الشجرة قريحة الدرامي السوداني هاشم صديق فأعد مسلسلا إذاعيا شهيرا تحت نفس عنوان (الحراز والمطر).
وانتقلت الحرازة إلى لوحات الفنان التشكيلي العالمي إبراهيم الصلحي الذي يعتبر حضورها في رسوماته معادلا موضوعيا لحياة الإنسان السوداني.
ويحكي الصلحي في مقابلة مسجلة له، تأثير شجرة الحرازة في أعماله حيث يقول: (كنت أشير إلى السودان فيما سبق بلون تراب الأرض، وبلون المغرب الأصفر والأحمر، ومنذ سنين مضت ركزت على فكرة شجرة الحرازة التي يحكى أنها قد حاربت المطر، وأنا أستخدمها رمزا مني لإنسان تتمثل فيه قوة الشكيمة، والإصرار على الحياة رغم فظاعة الظروف وقسوة الطبيعة والجفاف والتصحر، وكنت أستخدم بدل الداكن من ألوان التراب، ألوانا براقة تحاكي في رونقها نضارة نوار البرم، وأزاهير اللوبيا على ضفاف نهر النيل بشارة بروح الأمل".
ويقول الصلحي عن توظيف هذه الشجرة العجيبة في أعماله الأخيرة، وآخرها لوحة "صدى أحلام الطفولة" التي نالت أرفع الجوائز الأكاديمية والفنية (أنه اهتم كثيرا بشجرة الحرازة؛ ولذا اتخذها في أعماله الراهنة كرمز للإنسان السوداني البدوي الرعوي الأغبش، عفيف النفس المزارع المتوكل على الله، الحاصد، الصابر، القنوع).
من زاوية أخرى، وحسب الأسطورة التي يرويها الأجداد لأحفادهم في تفسير ظاهرة محاربة الحراز للأمطار بأن هناك ثلاثا من أشجار الحراز كانت تعيش متقاربة منذ زمن ونمت اثنتان بزمن متقارب وكانت أشجار الحراز الثلاث تخضر خريفا كباقي الأشجار وتمثلت للقرويين كأم وأب وابنهما.. وفى أحد المواسم كان المطر غزيرا يتخلله رعد وبرق وصواعق وكان الحراز يتميز بأنه من أطول الأشجار.. ومع موسم المطر المنهمر انطلقت صاعقة فضربت الحرازة الابن وأحرقتها تماما من الأوراق والتهمت الصاعقة الجذع والفروع والغصون والثمار وبدأ الجذع خاويا على عروشه.
ومن هنا غضب شجر الحراز على مقتل ابنهم بسبب المطر وصواعقه الرعدية فقررت جميع أشجار الحراز أن تعلن الحداد في موسم المطر في ذكرى ابنهم المقتول غدرا من المطر، وصارت لا تخضر ولا تثمر إلا في غياب قاتل ابنهم المطر".
ويقول البروفيسور محمد أحمد النور، خبير الغابات والبيئة والأستاذ بكلية الغابات بجامعة الخرطوم، إنه ليست هنالك أسطورة وراء ظاهرة عدم اخضرار هذه الشجرة في موسم الخريف، ويقول إن التفسير العلمي لهذه الظاهرة أن الأمطار لا تستطيع التسرب إلى جذور هذه الشجرة التي تمتد عميقا بسبب كثافة الأراضي الطينية وتراكم الطين الذي يمنع تسرب المياه الذي يأخذ وقتا طويلا حتى تصل إلى أعماق الشجرة، وهو ما يستغرق موسم الخريف بأكمله وتبدأ الشجرة بالاخضرار بعد وصول المياه للأعماق.