لا أحد يتفهم مغامرات السلطان وأسبابها في سوريا وغيرها أكثر من القيصر
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جرب المغامرة في الأزمة السورية لمرات عدة خلال السنوات التسع الماضية، وفي كل مرة كان يحاول فيها أن يكون اللاعب الأول والرئيسي هناك كان يعود مهزوماً، بدأ أردوغان مشواره مع الأزمة عام 2011 متبنياً أقصى درجات المعارضة للرئيس السوري بشار الأسد، ومع مرور الوقت تقلصت هذه المعارضة تدريجياً حتى وصلنا عام 2020 إلى لقاء في موسكو الذي جمع بين مدير المخابرات التركية ومدير الأمن الوطني السوري، بحثا عن مصالحة لأردوغان مع الأسد، ترعاها روسيا حليفة دمشق وأنقرة معاً.
لا تستطيع تلمس فائدة كبيرة، أو فائدة دون آثار جانبية، حصدها الرئيس التركي في الأزمة السورية، ولعل ذلك ينطبق على جميع علاقاته الخارجية، فمنذ أن وضع أردوغان نصب عينيه تغيير النظام السياسي في تركيا من برلماني إلى رئاسي، وراح يتصرف كسلطان وليس كرئيس للجمهورية تحولت السياسة الخارجية لأنقرة من نظرية "صفر مشاكل" إلى "زرع المشاكل" في كل مكان.
لا أحد يتفهم مغامرات السلطان وأسبابها في سوريا وغيرها أكثر من القيصر، ولا أحد أكثر كرماً من القيصر في دعم أردوغان.. العروض الروسية لا تزال على الطاولة، وعندما تهدأ جعجعة أردوغان بشأن إدلب سيبدأ رسم الخرائط الجديدة في الشمال السوري
الأحلام الكبيرة للسلطان في سوريا كانت كبيرة جداً، ولكن أياً منها لم يتحقق حتى الآن، لم يفلح أردوغان في قلب نظام الأسد في دمشق وتسليم مفاتيح الجامع الأموي لجماعة الإخوان المسلمين، لم يقضِ على كرد الشمال السوري الذين يمدون حزب العمال الكردستاني بالدعم المادي والعسكري، لم تنهمر عليه مليارات الدولارات من دول الاتحاد الأوروبي خوفاً من تدفق اللاجئين الحالمين بالقارة العجوز، ولم يتمكن أيضا من فرض ما يسميها بالمنطقة الآمنة على كامل الحدود الجنوبية لبلاده، وعلى امتداد عشرات الكيلومترات داخل العمق السوري.
في العناوين الصغيرة أيضا لم يحصل أردوغان على مثل مكاسب اللاعبين الآخرين في الملف السوري، لم ينل إعجاباً من شعبه إزاء دوره في هذا الملف، لم يبن في سوريا قواعد عسكرية على غرار ما فعلت روسيا وإيران والولايات المتحدة، لم يستولِ على نفط أو غاز، ولم يأخذ امتيازات في أي قطاع اقتصادي. باختصار خرج خاسراً ومجرداً من كل المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية.
في سياق تعداد الخسائر أيضاً، لا بد من ذكر أن أردوغان لم يحافظ على أي من الخطوط الحمر التي تعهد فيها بالذود عن المعارضة السورية، ومنع قوات النظام من الزحف على مناطقها، كان يبرم الصفقات مع الروس والإيرانيين، ثم يسلمهما مفاتيح مناطق المعارضة وأسرار الفصائل التي تقاتل فيها، بعد أن يملأ الدنيا صراخاً وتنديداً بالقصف الروسي والعنف الإيراني ضد المدنيين.
بقي الرئيس التركي الحلقة الأضعف في المعادلة السورية، حتى قرر نظيره الأمريكي دونالد ترامب فتح أبواب شرق نهر الفرات أمامه ليحارب كرد الشمال. صحيح أن أردوغان لم يستطع أن يحتل جميع المناطق وحوصر خلال أيام بالقوات السورية والروسية، ولكن الموقف الأمريكي في حد ذاته بعث بإشارة للجميع، تقول إن الولايات المتحدة لا تمانع تفويض أردوغان بإدارة الملف السوري.
التفويض الأمريكي لأردوغان في الملف السوري لم يخرج إلى العلن أبداً، وبقيت ملامحه مبهمة حتى اشتدت الحرب في إدلب. استغل الرئيس الأمريكي الوضع وراح يصعد ضد الجيش السوري حتى وصل إلى المواجهة المباشرة معه، في كل تهديد كان يرسله إلى دمشق كان يذكر موسكو بين السطور، ولكن للخصومة مع الرئيس الروسي تداعيات لا يجب أن تتجاهلها أو أن تستهتر بها.
بالنسبة للروس كل ما يحدث منذ سماح ترامب للقوات التركية بالدخول إلى شرق الفرات وحتى يومنا هذا، هو محاولة أمريكية لإضعاف التحالف بين موسكو وأنقرة، وعلى الرغم من إدراكهم أن معارك إدلب ستهز العلاقة بينهما، إلا أنهم قرروا دعم الجيش السوري في زحفه نحو المدينة ليفرضوا معادلات جديدة في الميدان، ليس بغرض مواجهة أردوغان عسكرياً، وإنما بغرض زعزعة حصار ترامب للأزمة السورية ومنعه من نفاذ أي حل إليها، أياً كان مصدره.
في الحقيقة حاول الروس إقناع الرئيس التركي بحربهم في الشمال من خلال عروض عدة، كان آخرها محاولة إطلاق اتفاق يجمع أردوغان مع نظيره السوري بشار الأسد، بدل اتفاق أضنة الذي أبرم بين دمشق وأنقرة عام 1998. لم تكن العروض مغريةً كفاية لأردوغان لأنه كان يحلم بغنيمة أكبر من الأمريكيين. ربما يطمع بولاية تركية جديدة في الزاوية الشرقية الشمالية من سوريا، على غرار تلك الزاوية التي يحتلها ترامب على الجهة المقابلة من البلاد بحجة حماية النفط.
يحاول أردوغان اليوم خوض مغامرة جديدة في سوريا، هذه المغامرة يراهن فيها على دعم أمريكي غير محدود في مواجهة الروس، تصريحات واشنطن الرسمية لا تعكس اهتماماً كبيرا بهذه التطلعات الأردوغانية، ولا أظن أن الرئيس دونالد ترامب معني بحرب مع الروس، وهو يستعد لولاية رئاسية ثانية، أبرز عناوينه الانتخابية فيها الانسحاب من الحروب وإعادة الجنود الأمريكيين لبيوتهم.
إن تخلى الأمريكيون عن أردوغان هذه المرة أيضاً، سيجد نفسه محرجاً أمام الداخل والخارج ولن يبقى له ملاذاً سوى الرئيس الروسي، لا أحد يتفهم مغامرات السلطان وأسبابها في سوريا وغيرها أكثر من القيصر، ولا أحد أكثر كرماً من القيصر في دعم أردوغان، العروض الروسية لا تزال على الطاولة، وعندما تهدأ جعجعة أردوغان بشأن إدلب، سيبدأ رسم الخرائط الجديدة في الشمال السوري.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة