ما الذي يجري في منطقة البحر الأسود؟ وهل يمكن أن تقود الأحداث هناك إلى مزالق الهاوية وحدوث صدام عالمي لا يصد ولا يرد؟
قبل بضعة أيام، كان رئيس أركان الجيش البريطاني، الجنرال نيكولاس كارتر، يحذر من أن هناك مخاطر أكبر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، تنذر بنشوب حرب بين الغرب وروسيا، نظرًا لغياب العديد من الأدوات الدبلوماسية.
يستدعي التصريح المتقدم التساؤل: "ما الذي حدث إلى درجة تفوق المواجهات التي كانت قائمة لأزيد من أربعة عقود ما بين حلفي وارسو والناتو، ليخرج علينا المسؤول العسكري البريطاني الرفيع بمثل هذا التصريح؟
لا يحتاج الأمر إلى قرون استشعار خاصة ليدرك المرء ما الذي يحدث في منطقة البحر الأسود، على مرمى حجر من روسيا الاتحادية، وحيث لم تكن تجرؤ أي قطعة بحرية غربية أن تقترب في زمن الحرب الباردة، ذلك أنه من الواضح أن الناتو قرر استباق الاجتماع الجديد بين الرئيسين الأمريكي والروسي، والذي قد يعقد في أوائل العام القادم، بالضغط على موسكو في منطقة البحر الأسود.
ولهذا السبب، فإنه ومنذ نهايات أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، يرصد الروس مدمرات بحرية أمريكية تدخل مياه البحر الأسود وعلى بعد نحو 100 كيلومتر فقط من حدود الدولة الروسية.
وفي التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تم اكتشاف طائرة استطلاع للأهداف الأرضية مرةً أخرى فوق البحر الأسود.
ما الذي تبغيه الولايات المتحدة من مناوشاتها مع الروس؟
من الواضح أن واشنطن لا تزال عند قناعتها التي بلورها المحافظون الجدد في نهاية تسعينيات القرن المنصرم والمعروفة باسم "القرن الأمريكي"، حيث لا أحد يتجاوز أمريكا أو يفوقها قوةً ومنعة، بناءً اقتصاديا أو انتشارًا عسكريا من مشارق الأرض إلى مغاربها، لا صوت يعلو على صوت الهيمنة الأمريكية.
من هذا المنطلق، يمكن للمرء أن يقرأ العديد من الخطوات الاستراتيجية التي قامت بها واشنطن في الأشهر القليلة الماضية، وفي مقدمها تشكيل تحالف "أوكوس" من جهة، و"كواد" من ناحية أخرى.
يرى الروس أن الأمريكيين قد أسسوا جناحًا لحلف الناتو في أقصى الشرق ليكون "كماشة" تحيط بروسيا والصين، ولتطبق عليهما ساعة تشاء.
يكتب "فلاديمير جدانوف" عبر "أوراسيا إكسبرت".. فيقول: "باتت أوكوس تشكل تحديًا جديا لأسطول المحيط الهادئ الروسي، كما يمكن أن يعكس الانتشار السريع والسري لكتلة عسكرية رغبة الولايات المتحدة في إعادة النظر في تعاونها مع الناتو في الإقليم".
وعلى صعيد مقلق أكثر، نرى تطورًا متسارعًا على الأرض برؤية وتخطيط أمريكيين لخلق كيان مناوئ لروسيا في الجوار منها، وذلك عبر محاولة إنشاء كتلة منفصلة من الولايات المتحدة وبولندا ودول البلطيق لردع روسيا.
هل التوجهات الأمريكية تقصد روسيا فقط أم روسيا والصين معًا؟
الشاهد أن واشنطن تغزل على وترين: الأول عسكري كما الحال في "أوكوس"، حيث تعمد إلى تزويد أستراليا بغواصات نووية من نوع "فيرجينيا"، والثاني سياسي، حيث تحاول تطويق بكين وموسكو بدائرة من الديمقراطيات الآسيوية الحليفة مثل اليابان والهند.
هنا يكون من الواضح جدا كيف تطلع الناتو مرارًا إلى الشرق، فقد كان المنعطف الآسيوي يعني دخول الحلف إلى آسيا، ليس ككتلة عسكرية سياسية، وإنما "كتحالف ديمقراطيات". نتيجةً لذلك، أصبح حلف شمال الأطلسي حليفًا واعدًا للهند واليابان في إطار الحوار الأمني الرباعي وأوكوس.
هل حسمت واشنطن قرارها لجهة من تواجه أول الأمر "موسكو أم الصين"؟
كان من الملاحظ الفترة الماضية أن العديد من الأصوات الرصينة في عالم التحليل السياسي، وعبر مراكز دراسات أمريكية متميزة، قد ارتفعت محذرةً إدارة الرئيس "بايدن" من الانسياق وراء مطاردة الصين ونسيان العدو الأيديولوجي الأخطر المتمثل في روسيا.
يرى المحلل السياسي الروسي ألكسندر نزاروف أن الولايات المتحدة لن تختار روسيا كهدف عسكري أبدًا، لا سيما أنها تعلم علم اليقين ما يتوافر للروس من قوى عسكرية فتاكة يمكنها أن تجعل من سماء أمريكا وأرضها جحيمًا مقيمًا، وبخاصة في ظل الأسلحة الفرط صوتية والصواريخ القاتلة التي تمتلكها من نوعية سارامات وغيرها.
لهذا، ورغم كافة التحركات العسكرية الجارية على السطح، فإن واشنطن لديها بديل آخر، عسكري أيضًا، لكنه غير مباشر، فهي تعتزم إثارة نزاع عسكري في منطقة حوض الدونباس بأيدي أوكرانيا، وبأيدي بولندا حول بيلاروس.
وعلى هذه الخلفية، توقف خط "السيل الشمالي -2"، والمخطط له نقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا، وبذلك تدمر واشنطن أي فرص للتقارب الروسي الألماني، والحصول على موقف الاتحاد الأوربي المستقل عن الولايات المتحدة.
متابعة المشهد الثلاثي الأمريكي الصيني الروسي يصيب الناظرين بحيرة، والتساؤل من يقدر على فض اشتباك الخطوط وفصل تداخل الخيوط.
ما تريده واشنطن أول الأمر هو فصل أي تحالف يمكن أن ينشأ بين موسكو وبكين بأي وسيلة، وربما لهذا جاءت القمة الصينية-الأمريكية الأخيرة كمحاولة لتهدئة التوترات بين البلدين بهدف التفرغ الأمريكي للمواجهة مع الروس.
ما تتطلع إليه واشنطن حال صراعها مع الصين هو أن تكون روسيا منشغلة بأكبر قدر ممكن على كافة الجبهات، لكن ليس مع القوات المسلحة الأمريكية، وحتى لا يشتت العم سام جهوده في مواجهة أحفاد القياصرة.
وهنا في غالب الأمر سيقع على الأوروبيين عبء كبير يتمثل ربما في مواجهة الروس، وهذا ما يعود بنا إلى تصريحات رئيس أركان الجيش البريطاني من جديد ويدعونا لفهم ما ورائيات تصريحاته الأخيرة.
هل كان لروسيا -وقيصرها "بوتين"- أن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يحدث من حولها من كل الاتجاهات؟
في الاتصال الهاتفي، الذي دار بين "بوتين" والرئيس الفرنسي، ماكرون، أوائل الأسبوع الماضي، أكد الأول للثاني أن مناورات الولايات المتحدة وحلفائها في البحر الأسود تحمل طابعًا استفزازيا، الأمر الذي يزيد من التوتر في العلاقات الروسية-الأطلسية.
"بوتين" لا يغفل الدور الذي تقوم به أوكرانيا -من وجهة نظره- كخنجر في الخاصرة الروسية، وكيف أنها تواصل سياستها المضرة الموجهة إلى تقويض اتفاقيات "مينسك"، الأمر الذي يدل عليه استخدام القوات المسلحة الأوكرانية مؤخرًا طائرات مسيرة ضاربة في منطقة النزاع.
قبل حديث "بوتين" الدبلوماسي مع "ماكرون" كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يعلن مباشرة من غير مناورة أو مداورة أن روسيا ستتخذ في حال الضرورة إجراءات ردا على خطوات غير ودية من قبل الناتو والغرب.
أما وزارة الدفاع الروسية فقد حذرت بدورها من أن تكثيف الولايات المتحدة وغيرها من دول حلف الناتو أنشطتها العسكرية في حوض البحر الأسود يشكل خطرًا على أمن واستقرار المنطقة.
هل يمكن للأوضاع أن تنفجر في لحظة من الرؤوس الساخنة؟
يبقى الاحتمال واردًا، ويظل سلام وأمن العالم مهددين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة