إن إسرائيل دولة محتلة، فهذا لا نقاش فيه إطلاقاً، وهي ستبقى معادية للعرب ما دامت تحتل ولو ذرة تراب واحدة من فلسطين
نُسِب إلى قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني»، وبالصوت والصورة، أنه قال خلال الحرب العراقية – الإيرانية: «عداؤنا ليس جديداً، لقد قدمنا تضحيات لكسر شوكتهم وكبح جماحهم وتدمير أمجادهم المزعومة... نحن نقاتل من أجل هدف سام وكبير... نحن نقاتل من أجل استعادة إمبراطورية لم يبق منها سوى الأطلال... نضحي ونقاتل لكي لا يبقى شبر من أرض فارس ولا ساعة تحت سيطرة أناس يسكنون الصحارى... إن الأهم هو بسط النفوذ الإيراني وليس هزيمة العراق». والمعروف أنَّ صاحب هذا الكلام الآن مستشار في حكومة العراق.
نعم أشد خطورة من احتلال إسرائيل؛ لأنه مصحوب بأبعاد مذهبية وطائفية وعقائدية، ولأنه مزَّق وسيمزّق الجزء الشرقي من العالم العربي مذهبياً وطائفياً، ولأنه انطلق وينطلق من الاستناد إلى بؤر سعت هذه الـ«إيران» إلى تحويلها إلى ألغام موقوتة.
وبالطبع فإن هذا كان قد قاله الخميني وغيره من كبار المسؤولين الإيرانيين قبل حرب الثمانية أعوام العراقية – الإيرانية، وخلالها وبعدها، ثم عندما يصدر عن طهران الآن ورسمياً أن إيران غدت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنها حققت هدف أن يكون لها ممر بري يربطها بشواطئ البحر الأبيض المتوسط، ألا يعني هذا أنَّ الإيرانيين - والمقصود هنا هو الحكومة والمؤسسة المذهبية وليس الشعب - يسعون فعلاً لاستعادة ما يسمونه «أمجاد فارس»، والسيطرة إنْ لم يكن على الدول العربية كلها فعلى «المشرقية» منها، أي بلاد الشام والعراق واليمن والخليج العربي كله؟!
كنا قد سمعنا في وقت مبكّر، يعود إلى ما قبل الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وفتح أبوابه على مصاريعها للإيرانيين، بعد إلغاء دولته و«فرط» مؤسساته، وحل جيشه وأجهزته الأمنية، عن تباهي كبار المسؤولين في طهران، من معممين وغير معممين وجنرالات عسكريين، بأنه قد أصبح لهم هلال فارسي، أطلقوا عليه وصفاً مذهبياً، يبدأ باليمن ويمر بكثير من دول الخليج العربي، الذي يصرون على أنه خليج فارسي، وصولاً إلى العراق وسوريا وإلى لبنان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية، وهنا فإن ليس أغلب الظن فقط؛ بل المؤكد، أنه لولا إنشاء التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية وتصديه للأطماع الإيرانية ولحلفائها المحليين في اليمن، لقام هذا الهلال الفارسي فعلياً، ولكانت هذه المنطقة مجالاً حيوياً إيرانياً، ولتم استكمال هذه الدائرة الجهنمية. ولهذا فإننا قد سمعنا ولا نزال نسمع تبجح كبار المسؤولين في طهران، من معممين وغير معممين، بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأنها حققت ممرها البري الاستراتيجي بالوصول إلى ضاحية بيروت الجنوبية.
ولعل ما تجب الإشارة إليه هنا، أنه كما صمت الأميركيون والروس والإسرائيليون، ومعهم الغرب الفاعل والمؤثر كله، على هيمنة إيران على العراق وسوريا ولبنان، ومحاولات هيمنتهم على اليمن، فإنهم يصمتون الآن عن محاولات التمدد الإيراني في المنطقة العربية كلها، ما منها في آسيا وما منها في أفريقيا، والمعروف أن دولة الولي الفقيه التي تستخدم العمامة السوداء لاستعادة ما تسميه أمجاد فارس القديمة، قد حاولت ولا تزال تحاول، وقد حققت بعض النجاحات في استخدام بعض المكونات المذهبية «التفتيتية» و«التمزيقية» التي غدت تعتبرها جزءاً من العائلة الطائفية التابعة لها، لتحقيق، إنْ لم يكن كل، فبعض تطلعاتها في هذه المنطقة، ومع التأكيد هنا على أنَّ المقاومة الفعلية التي تواجهها هي مقاومة الشيعة العرب الذين استيقظ وجدانهم القومي - العروبي، كما في العراق في الجنوب، وفي الفرات الأوسط.
والدليل على هذا هو «انتفاضة» اليمن الأخيرة التي جاءت رداً على تمادي الإيرانيين في السعي لتحويل الحوثيين، وأيضاً المذهب الزيدي، المعروف باعتداله ووسطيته، وباقترابه من المذهب الحنفي والمذهب الشافعي، إلى حزب فارسي، وعلى غرار ما تم في العراق من خلال مليشيات «الحشد الشعبي»، وفي سوريا من خلال كل التنظيمات الطائفية المستوردة حتى من أفغانستان وباكستان، التي أصبحت لها مستوطنات تشبه المستوطنات الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة وفي الضفة الغربية.
والمشكلة هنا أن هناك من يجد صعوبة في اعتبار أن الاحتلال الإيراني «الزاحف» في المنطقة العربية أخطر من الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي هضبة الجولان السورية. وحقيقة أنَّ هؤلاء ينطلقون من منطلقات إسلامية لها كل التقدير والاحترام، لو أن إيران تتصرف بدافع إسلامي صادق، وليس بدوافع ثأرية وتوسعية فارسية قديمة، لا ينكرها حتى كبار المسؤولين الإيرانيين، وإلا ما معنى أن يقول قاسم سليماني هذا الذي تمت الإشارة إليه آنفاً؟! وما معنى أن يقول غيره إنَّ إيران غدت تسيطر على أربع عواصم عربية، وإنّ إيران قد حققت «ممرها» البري الذي يربطها بشواطئ المتوسط الشرقية؟ ثم ما معنى أيضاً أنْ تواصل طهران سعيها الدؤوب لاستكمال هلالها الفارسي الذي تريده ممتداً من الحديدة على شواطئ البحر الأحمر، وحتى ضاحية بيروت الجنوبية على شواطئ المتوسط الشرقية، مروراً بالخليج العربي كله، الذي تصر على أنه خليج فارسي، وبالطبع مروراً بالعراق وسوريا؟
إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الدولة الإسرائيلية كيان معادٍ، وسيبقى معادياً إلى أن تتحرر فلسطين كلها، من البحر إلى النهر، ثم إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الحركة الصهيونية حركة استعمارية سابقاً ولاحقاً والآن، وفي المستقبل، فهذه مسألة محسومة ولا نقاش فيها، وهنا فإن المفترض أن تكون إيران إلى جانب الأمة العربية في صراعها التاريخي مع الدولة الصهيونية المحتلة، وهو صراع سيبقى مستمراً ولن ينتهي إلا بتحرير آخر ذرة من تراب فلسطين؛ لكن وهذا يجب أن يقال: «ما كلّ ما يتمنى العرب يدركونه»، والمشكلة أن هذه الدولة الإيرانية تتصرف تحت تأثير ثارات «فارسية» قديمة، وأنها تسعى الآن لاحتلالٍ في هذه المنطقة كالاحتلال الصفوي للعراق، الذي تواصل بكل ثقله وعنصريته لسنوات طويلة.
ربما هو صعب؛ بل هو في غاية الصعوبة أن تكون هناك مقارنة بين الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث ولـ«عربستان»، والآن للأربع عواصم العربية التي يفتخر الإيرانيون بأنهم باتوا يسيطرون عليها، وبين الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؛ لكن ما العمل ما دامت هذه هي حقائق الأمور، وحقائق الأمور هي أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي.. نعم أشد خطورة من احتلال إسرائيل؛ لأنه مصحوب بأبعاد مذهبية وطائفية وعقائدية، ولأنه مزَّق وسيمزّق الجزء الشرقي من العالم العربي مذهبياً وطائفياً، ولأنه انطلق وينطلق من الاستناد إلى بؤر سعت هذه الـ«إيران» إلى تحويلها إلى ألغام موقوتة، وهذا مع الاعتزاز بأن هناك صحوة وجدانية قومية عروبية في العراق وفي اليمن، وبالطبع في سوريا ولبنان.
إن إسرائيل دولة محتلة، فهذا لا نقاش فيه إطلاقاً، وهي ستبقى معادية للعرب ما دامت تحتل ولو ذرة تراب واحدة من فلسطين؛ لكن المعروف أن احتلالها لا يقترن بأي أبعاد «عقائدية» ومذهبية، كما في بعض الدول العربية التي تستند إلى بعض ضعاف النفوس في الكيانات الطائفية في هذه الدول، وكما هو الوضع بالنسبة لإيران، ولذلك فإننا نجد أننا مُجبَرون على اعتبار أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي الذي هو زائل لا محالة، سواء طال الزمان أم قصر!!
نقلاً عن " الشرق الأوسط "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة