أبوبكر البغدادي اعتمد استراتيجية التخفي الطويل ورفض الظهور، فلم يظهر سوى مرتين منذ تأسيس التنظيم في 2014
استيقظنا صباح يوم الأحد الموافق السابع والعشرين من أكتوبر 2019 على خبر تذيعه جميع الوكالات ووسائل الإعلام العربية وغير العربية "مقتل أبوبكر البغدادي على يد القوات الأمريكية؛ حيث صرح أحد مسؤولي البنتاجون بأن قوات العمليات الخاصة نفذت عملية قتله بعدما حصلت على معلومات استخباراتية بمكان وجوده".
أبوبكر البغدادي اعتمد استراتيجية التخفي الطويل ورفض الظهور، فلم يظهر سوى مرتين منذ تأسيس التنظيم في 2014؛ الأولى في فيديو مسجل عند تأسيس خلافته أثناء الصلاة في جامع النور الكبير في غرب الموصل، والثانية في فيديو بعد نحو شهر من انتهاء هذه الخلافة الوهمية في أبريل الماضي 2019، استُهدف أبوبكر البغدادي عدة مرات، وانتشرت الكثير من الشائعات عن مقتله.
خبر مقتل أبوبكر البغدادي يعيدنا إلى ذلك السؤال القديم الذي طرح نفسه كثيرا بعد الإعلان عن مقتل أحد قادة هذه التنظيمات الإرهابية: هل تنتهي أو تموت هذه التنظيمات بموت قائدها وزعيمها؟
هذا السؤال أجابت عنه صيرورة الزمن بأنه لم ينتهِ أي من تلك التنظيمات الإرهابية بموت زعيمها.
ونبدأ بالاستدلال عبر الحالة التي نحن بصددها وهي حالة "داعش" التي وضع بذرة تنظيمها أبومصعب الزرقاوي الذي كان عضوا فاعلا في تنظيم القاعدة وقائد معسكرات التدريب في أفغانستان، ثم جاء إلى العراق بعد احتلاله من قبل الأمريكيين في 2003، وأسس هناك ما عرف بـ"جماعة التوحيد والجهاد"، ثم بعد ذلك بايع أبومصعب الزرقاوي أسامة بن لادن، وتحولت جماعته إلى اسم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، واعتبر فرعا رئيسيا للقاعدة في العراق.
في المحصلة علينا أن نتعامل مرة أخرى مع موت قيادات التنظيمات الإرهابية بجدية واهتمام من قبل الجميع الحكومات أولا ومراكز الأبحاث والمؤسسات الدينية أيضا. فهذه التنظيمات هي منظومة فكرية شاذة قبل أن تكون تنظيمات حركية، والفكر يحارب بالفكر
في يونيو 2006، أُعلن مقتل أبومصعب الزرقاوي، وخرج بوش الابن الرئيس الأمريكي آنذاك يؤكد مقتله، ويؤكد أنها ضربة قوية لتنظيم القاعدة ليس في العراق فقط وإنما في المنطقة كلها.
لكن وزير دفاعه وقتها "رامسفيلد" قال جملة مهمة أثبت الزمن صحتها وهي: "مقتل أبومصعب الزرقاوي رغم أهميته لن يضع نهاية لأعمال العنف بل ربما تزيد"، وهذا ما حدث فعلا.
الذي حدث أن التنظيم مر ببعض العثرات استمرت أربع سنوات من 2006 حتى 2010 حين تولى أبوبكر البغدادي مسؤولية التنظيم بعد مقتل زعيمه أبوعمر البغدادي ومساعده أبو أيوب المصري في غارة جوية أمريكية على الحدود السورية العراقية. اعتبرت مرحلة أبوبكر البغدادي الأكثر انتشارا وخطورة في مسيرة التنظيم الذي كان اسمه "الدولة الإسلامية في بلاد العراق".
ماذا فعل أبوبكر البغدادي؟
وسع الخريطة الجغرافية التي يتحرك فيها التنظيم من العراق إلى الشام، وأعاد المسمى ليصبح "الدولة الاسلامية في بلاد العراق والشام" مختصرا له "داعش".
وانتقل ودخل إلى بلدات سورية "إدلب – دير الزور – حلب"، مستغلا المبرر الذي أعطاه له الإيرانيون بعد إدخال جماعة حزب الله اللبناني إلى الداخل السوري بعد تفجر الثورة السورية.
وبالتالي دخول أبوبكر البغدادي إلى سوريا كان بمثابة "تشدد سني" يمثله داعش في مواجهة تشدد شيعي مخابراتي إيراني يمثله "حزب الله اللبناني وقاسم سليماني".
أبوبكر البغدادي غيّر الأدبيات العقائدية التي وضعها أبومصعب الزرقاوي، بل طوّرها أو جعلها أكثر تطرفا وتشددا، فقد أباح القتل والذبح والحرق وكل ما تعارف عليه على أنه محرم في العقيدة الإسلامية.
حقق أبوبكر البغدادي ما لم تحققه التنظيمات التكفيرية والإرهابية الأخرى، وهذا خطورته؛ حيث أحدث نقلة في مسيرة هذه التنظيمات الإرهابية الحركية المتخفية إلى تنظيمات ثابتة لديها أرض وحدود ومحيط جغرافي وعمل وعاصمة، وهذا ما حدث في الرقة ودير والزور وغيرهما من المدن السورية والعراقية.
الشيء الآخر، لقد تم استدراجنا جميعا إلى فخ المسمى فجميعنا راح يردد "الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام" وكأننا دون قصد نعطي اعترافا مجانا لتنظيم إرهابي بأنه دولة.
وتلك نقطة كان يجب أن تتم إعادة تغيير التعامل الإعلامي مع المسميات الإرهابية، وهذا للأسف لم يحدث.
إذا نحن أمام متغير مهم وهو مقتل أبوبكر البغدادي، واحد من زعامات الإرهاب في الأعوام الثمانية الماضية، لكن لا يجب أن نتعامل معه على أن أمر تنظيم داعش انتهى، أو نرتاح إطلاقا، علينا أن نبدأ البحث في زاوية شديدة الأهمية، وهي تلك الأدبيات والخبايا التي تحويها أدبيات التنظيم من الممكن أن تكون بابا لمزيد من التطرف والتشدد.
أولها وأهمها في اعتقادي إمكانية أن يستغل التنظيم الصراعات الموجودة في المنطقة، خصوصا في سوريا والعراق وتركيا "مثلث القلق".
فمن قال إن تركيا لا يمكن أن تعيد تعاملها مع داعش بعد مقتل زعيم التنظيم لأن من مصلحتها أن يظل باقيا في الأراضي السورية لسببين؛ الأول ورقة تركية في مواجهة الكرد وهذا تابعنا بعضا من ملامحه في الحرب التركية على الأراضي السورية الأخيرة، وهناك العديد من المشاهد التي تؤكد تعاون التنظيم مع الأتراك.
الشيء الآخر وجود التنظيم كجزء مهم لتحصيل مكاسب تركية من أمريكا ومن الحكومة السورية نفسها وهكذا إيران منذ وجود تنظيم داعش في العراق وفي سوريا وهي تلعب معه لعبة السباب والهجوم في النهار والدعم والتأييد في المساء.
إذا المعالجة المهمة للتنظيم تكمن في استباق تحور التنظيم وإعادة تشكله من جديد، لأننا بقينا طيلة الوقت ردات فعل لهذه التنظيمات، بمعنى ننتظر المراحل التي يظل التنظيم يتطور من داخله ثم نتعامل مع صورته الأخيرة وغالبا دون وعي.
أبوبكر البغدادي نفسه ظل من 2010 حتى 2014 طور سياسات التنظيم وأدبيات العقدية حتى فوجئنا بالصورة الأخيرة لداعش التي لم تقتصر على العراق فقط وإنما امتدت إلى بلاد الشام، وهكذا حدث مع بقية التنظيمات الأخرى.
وهنا أشير إلى تنظيم آخر وهو حركة طالبان الأفغانية، ماذا حدث بعد موت الملا عمر القائد الأعلى لها ومؤسسها الذي أوصلها إلى حكم أفغانستان منذ 96 وحتى 2001؟ لم تنتهِ الحركة ولم تمت ولم تضعف.
في 2013 حين أعلنت حركة طالبان بيان وفاة الملا عمر وتولى بعده الملا اختر محمد منصور، الجميع قال "طالبان انتهت".
أذكر أنني كنت موجودا في كابول بعدها في مهمة صحفية لقناة العربية، وكان هذا الكلام يتم ترديده في الداخل، بل بدأت الرئاسة الأفغانية والحكومة الأفغانية تتعامل مع طالبان على أنه تنظيم انتهى.
لكن مع الوقت قويت طالبان وغيّرت تكتيكها مع الحكومة الأفغانية ومع دول الجوار خصوصا إيران، وتحولت -إيران- من عدو أيديولوجي مع طالبان إلى وسيط بينها وبين أمريكا وبينها بين الحكومة الأفغانية نفسها.
وشاهدنا مؤتمرات للحوار بين طالبان وحكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني، ولقاءات بين أمريكا وطالبان أيضا.
في المحصلة علينا أن نتعامل مرة أخرى مع موت قيادات التنظيمات الإرهابية بجدية واهتمام من قبل الجميع الحكومات أولا ومراكز الأبحاث والمؤسسات الدينية أيضا. فهذه التنظيمات هي منظومة فكرية شاذة قبل أن تكون تنظيمات حركية، والفكر يحارب بالفكر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة