"لا لا لاند".. مرثية هوليوود مصنع الأحلام
المخرج الأمريكي الفرنسي "دميان شازل" وفيلمه "لا لا لاند" جاءا ليكونا أبطال حفل توزيع جوائز الجولدن جلوب.
جاء المخرج الأمريكي الفرنسي "دميان شازل" وفيلمه "لا لا لاند" ليكونا أبطال حفل توزيع جوائز الجولدن جلوب هذا العام، بفوزهم بسبع جوائز جولدن جلوب، وهي مجمل الجوائز التي رشح لها العمل.
الغريب في الأمر أن "لا لا لاند" فيلم موسيقى، وهي نوعية من الأفلام التي اختفت تقريبا من على شاشات السينما في العالم، باستثناء السينما الهندية بالطبع، لكن بعد مشاهدة الفيلم ندرك للوهلة الأولى أننا لسنا أمام فيلم غنائي تقليدي، بالرغم من كلاسيكية تصميم العمل وإحالة المتفرج عبر موسيقاه ورقصاته لأشهر أعمال كوميدية موسيقية في تاريخ السينما.
فنحن مع لالاند، والمستمد اسمه كما أعتقد من الـ"لا" في السلم الموسيقي، أمام "ميا" (إيما ستون) التي تعمل في مقهى في استوديو (وارنر بروس) بهوليوود، على أمل أن تستطيع الحصول على أي دور في أعمال السينما أو التلفزيون، فهي تعشق التمثيل الذي تركت دراسة الحقوق وبلدتها من أجل تحقيق حلمها.
الطرف الثاني في معادلة الرومانسية "سبستيان" (ريان جوسلينج) موسيقي موهوب عاشق لموسيقى الجاز وأباطرة هذا الفن (مثل ميل ديفيز، وشارلي باركر وغيرهم)، يضطر أن يعمل عازف بيانو في البارات، ليعزف مقطوعات سخيفة لمجموعة من الزبائن المنصرفين عنه، نشهده يفقد عمله هذا لأنه بالرغم من تعهده لصاحب البار بأنه سيلتزم بالمقطوعات الموسيقية التي حددها له، يخرج عن النص ويعزف مقطوعة جاز كلاسيكية.
يلتقى هذان المخلوقان بأحلامهما وطموحتهما المنكسرة، هي تريد أن تكون ممثلة في عالم السينما الذي لا يقبلها، وهو يحلم بفتح نادٍ ليلي خاص بموسيقى الجاز، ولا شيء سوى الجاز.
لكن هذه التركيبة التقليدية لفيلم موسيقي كلاسيكي، تخفى وراءها شجنا كبيرا عما آلت إليه السينما في هوليوود، وما آل إليه العالم (وبالتحديد العالم المتقدم) من رتابة واتباع الأجيال الجديدة وخضوعهم لما هو سائد، واختفاء روح المغامرة والرغبة في التعبير عن الذات خارج أطر المجتمع وقوانينه للنجاح.
اللحظة الأولى التي تتعرف فيها "ميا" على فارسها "سبستيان"، يكون بالصدفة، (وهي وسيلة عزيزة على قلب الميلودراما والكوميدية الموسيقية، وهو ما سنشاهده كثيرا في الفيلم).
تلك الصدفة جاءت من خلال سماعها لتيمة موسيقية تأتي من نادٍ ليلي وهي مارة بالشارع، ليذكرنا ذلك فيلم "كازابلانا 1942" من إخراج مايكل كورتيز، حيث تقع قصة حب ملتهبة بين هفرى بوجارت وإنجريد برجمان بطلا الفيلم. من خلال تلك الإحالة يحاول الفيلم تذكيرنا بلحظات هوليوود الأكثر رومانسية في عصر كان العالم يشاهد فترة من أكثر فتراته وحشية مع الحرب العالمية الدائر رحاها في ذلك الوقت.
وفي حين أن النفس البشرية كانت تواقة للرومانسية والحب والسلام، نجد اليوم يسود السينما أفلام الخيال العلمي والأبطال الخارقين والتي يشوبها الكثير من العنف، وهي بعيدة كل البعد عن الرومانسية.
وحتى يساعدنا الفيلم في إدراك أن فيلم كازابلانكا الشهير هو المرجعية الخاصة، فهو يشير عبر حوار البطلين في جولتهما داخل استوديو وارنر إلي ديكور النافذة التي صور فيه مشاهد فيلم كازابلانكا.
من خلال هذا الفيلم الذي يدعو "سبستيان" "ميا" لمشاهدته في دار السينما، وهو فيلم طليعي كان يرصد تمرد أبناء الطبقات الوسطي في تلك الفترة، يحاول سبستيان الإمساك بيد حبيبته ميا داخل دار العرض، كما كانت الرومانسية في الأيام الخوالي، فيتم حريق لنسخة الفيلم المعروضة داخل كابينة العرض، وكأننا في ايام سينما شرائط السينما السليلوز القابلة للاحتراق في الزمن القديم، ولكن كانت تلك وسيلة من الفيلم لإعادتنا لأرض الواقع الفج الذي لا مكان للرومانسية القديمة به. ولا يكتفي الفيلم بذلك بل يدير استعراضات موسيقية داخل مرصد مثل الذي دارت فيه أحداث فيلم جيمس دين ونتالي وود ليقدم لنا رقصات يلتحما فيها بسماء ساطعة النجوم ، وكأننا مع رقصة لفريد استير وجينجر روجرز في الثلاثينيات.
"ميا" تنتقد سبستيان لرضوخه لشروط السوق وعزفه لموسيقى لا تقترب من الجاز الذي يعشقه، فيقول لها إنه تصور أنه بذلك يكون أكثر اندماجا في المجتمع الذي يري أن لا قيمة لمن لا يملك دخلا ثابتا ونقودا وفيرة، ولكنها تقول له إن فقدان الحلم سيؤدي إلي فقدان الروح، وهو يحاول يقنعها بأن تقوم بتأليف مسرحيتها الخاصة وتقوم بتمثيلها، وحين تنجح في ذلك وتقوم بتأجير مسرح على حسابها، تفشل المسرحية فشلا كبيرا، وتقرر "ميا" أن تترك هوليوود وتعود إلى بلدتها لتواصل دراسة الحقوق. ولكن سبستيان يذهب إليها في بلدتها بحثا عنها ليعيدها إلى حلمها القديم بعد أن أتت الفرصة إليها لتصبح نجمة، وتلمع في عالم التمثيل وتباعد الأيام بينهما حيث تنطلق هي في مجالها وتتزوج وتبني أسرة، وتعود من بعد خمس سنوات، لتقودها الصدفة مرة أخرى مع زوجها إلى نادٍ تنبعث منه موسيقى جاز لتدخل هي وزوجها، وتكتشف أن سبستيان قد حقق حلمه وتملك نادي الجاز الذي طالما حلم به، وهنا تلتقي نظراتهما مرة أخرى، ليعيد لنا الفيلم في موجز رائع أحداث الفيلم، والتي يلخص فيه الأحداث بمسار مغاير، مسار ينجحان فيه سويا في تحقيق حلمهما، ويجمعهما الحب والزواج والأسرة، ولا يفرق بينهما شيء، مسار جدير بكل نهايات أفلام الكوميدية الموسيقية الكلاسيكية الغارقة في الرومانتيكية.
لكن الفيلم لا يلبث وأن يرسو بنا من جديد على أرض الواقع، لنشاهد "ميا" تغادر نادي الجاز مع زوجها، ملقيا نظرة على سبستيان الجالس أمام البيانو يعزف، ليقابل نظرتها بابتسامة، لترد عليه بأخرى مشابهة.
وكانت النهاية من أروع ما يكون، لخص بها الفيلم رسالته، في أننا قد لا نستطيع إعادة أو ممارسة رومانسية الماضي، سواء في الواقع أو السينما، ولكننا نستطيع أن نكون ما نحب أن نكونه، حتى لو اعتبرنا العالم مجانين، فاقدين الأهلية، غير خاضعين لشروط الواقع السائد، لكن بتمردنا نحصل على خلاصنا الروحي، على أنفسنا، لأن مهما كانت معاناتنا، لكنها لن تكون بقدر معاناة أن نحيا طوال عمرنا في إطار لا نحبه، يرانا الواقع فيه عقلاء وخاضعين لقوانينه.
كما أن النهاية تحيلنا من جديد لفيلم كازابلانكا الشهير حيث يساعد هفري بوجارد، إنجريد برجمان للهرب خارج كازابلانكا مع زوجها هربا من النازي وجنود جمهورية فيشي الحاكمة لفرنسا المحتلة، بالرغم من حبه الشديد لها، مثلما ودع سبستيان ميا وهي راحلة مع زوجها خارج نادي الجاز الذي يمتلكه، قد تكون الرومانسية لم تعد تناسب هذا العصر، لكن الحنين إليها يساعدنا على تحمله.
aXA6IDMuMTQ1LjM4LjY3IA== جزيرة ام اند امز