الإمارات وروسيا.. إطلاق شراكة المستقبل
تعكس زيارة الرئيس بوتين للإمارات إرادة جادة نحو تفعيل "الشراكة الاستراتيجية" بين البلدين وإطلاق التعاون بينهما لمستويات غير مسبوقة
مثلت زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لروسيا في يونيو من العام الماضي، التي كانت السادسة في غضون خمس سنوات، نقطة تحول جوهرية في العلاقات الإماراتية الروسية، حيث تم خلالها توقيع "إعلان الشراكة الاستراتيجية" بين البلدين.
ويمثل هذا الإعلان التاريخي قاعدة مهمة لإطلاق التعاون بين الجانبين في مختلف المجالات على أساس من المصالح المتبادلة للطرفين.
فقد تغيرت السياسة الروسية جذرياً مقارنة بسابقتها السوفيتية، وأصبحت أكثر براجماتية وميلاً لتطوير الشراكات الجادة والمستقرة وبلورة تفاهمات استراتيجية حول القضايا محل الاهتمام المشترك مع دول الخليج عامة وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة.
وينص الإعلان على تطوير شراكة استراتيجية للعلاقات القائمة بين الإمارات وروسيا تشمل المجالات السياسية والأمنية والتجارية والاقتصادية والثقافية، إضافة إلى المجالات الإنسانية والعلمية والتكنولوجية والسياحية، وإجراء المشاورات بشكل منتظم بين وزيري خارجية البلدين بهدف تعزيز الحوار والتنسيق المشترك بينهما حول القضايا الثنائية والإقليمية والدولية.
في هذا السياق، تكتسب زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للإمارات اليوم أهمية ودلالة خاصة، بالنظر لكونها الأولى منذ اثني عشر عاماً، حيث كانت زيارته السابقة في سبتمبر/أيلول 2007، وكانت الأولى لرئيس روسي إلى دولة الإمارات منذ تأسيسها عام 1971، ومن ثم تعكس الزيارة إرادة جادة نحو تفعيل "إعلان الشراكة الاستراتيجية" بين البلدين وإطلاق التعاون بينهما لمستويات غير مسبوقة، ويشمل ذلك مجالات عدة.
أولها، التعاون الاقتصادي، ويتصدره التنسيق بين البلدين في سوق الطاقة في إطار صيغة "أوبك +" لمواجهة انخفاض أسعار النفط باعتباره تحدياً مهماً للجانبين، ومن المعروف أن الإمارات رابع أكبر منتجي منظمة الدول المصدرة "أوبك"، والثامنة على مستوى العالم، وتعد روسيا أكبر منتج وثاني أكبر مصدر للنفط عالمياً، ومن ثم فإن الشراكة الروسية الإماراتية في سوق الطاقة حجر زاوية لدعم اقتصاد الجانبين.
كما تمثل الإمارات شريكاً تجارياً ومستثمراً مهماً وواعداً بالنسبة لموسكو، فالإمارات ثاني أكبر اقتصاد عربي، وأحد أهم الاقتصادات العالمية، وتتطلع لتعزيز مكانتها ضمن منظومة الاقتصاد العالمي انسجاماً مع رؤية الإمارات 2021 واستعداداً لمئوية الإمارات 2071.
وتعد الإمارات أكبر الشركاء التجاريين لروسيا في منطقة الخليج العربي، وارتفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى 3.4 مليار دولار عام 2018.
وقد اتخذت روسيا خلال الأعوام الماضية بضع خطوات لتعزيز التبادل التجاري بين البلدين منها افتتاح مكتب تمثيل تجاري لها في السفارة الروسية في أبوظبي عام 2017.
وتعد الإمارات مركز إعادة التصدير المفضل للمنتجات والسلع الروسية في المنطقة الذي يتيح للمصدرين الوصول إلى نحو ملياري مستهلك في الأسواق المحيطة. ووفقاً لمجلس الأعمال الروسي الإماراتي الذي بدأ أعماله عام 2005 تبدي الشركات الروسية اهتماماً متزايداً بالمعارض الكبرى التي تقام في دبي بما في ذلك معرض جلفود الذي شهد مشاركة روسية واسعة.
من ناحية أخرى، تسعى روسيا إلى جذب الاستثمارات الإماراتية في قطاعات عدة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018 عُقد في موسكو المنتدى الاستثماري "أبوظبي موسكو"، شاركت فيه 10 شركات حكومية و400 شركة خاصة من الجانبين، وجاء المنتدى في إطار فعاليات أسبوع الاستثمار الإماراتي الروسي، بهدف تطوير الشراكة الاقتصادية والعلاقات الاستثمارية بين البلدين، واستغلال الآفاق الواسعة لتطوير العلاقات بينهما في مختلف المجالات.
وقد نجح البلدان في إطلاق مجموعة من الاستثمارات المشتركة من أبرزها الاستثمار المشترك بين الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة وشركة مبادلة الإماراتية في نحو 40 صفقة مشتركة في روسيا بقيمة تتجاوز 2 مليار دولار أبرزها في مطار بولكوفو بمدينة سان بطرسبورج الروسية، ومشاريع بمشاركة شركة موانئ أبوظبي، إلى جانب الاستثمارات في مجال البتروكيماويات، وأخرى في مجالي الزراعة والغذاء بقيمة 19 مليار روبل (300 مليون دولار)، بالإضافة إلى استثمار نحو 10 مليارات روبل في مجموعة شركات "إفكو" المتخصصة في منتجات الزيوت والدهون في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا ويضم خمس دول هي: روسيا، كازاخستان، بيلاروسيا، أرمينيا، وقرجيزستان.
يضاف إلى هذا الاستثمارات الإماراتية في الأقاليم الروسية ومنها جمهورية الشيشان الروسية، كما ترحب موسكو بمشاركة رجال الأعمال الإماراتيين في إنشاء المنطقة الصناعية الروسية في مصر والمشروعات الاقتصادية التي تنفذها في دول عربية وأفريقية أخرى.
ثانيها، التعاون التقني، ويتم في إطاره تدريب رواد الفضاء الإماراتيين وإطلاقهم إلى المحطة الفضائية الدولية، وفق الاتفاقية الموقعة بين البلدين في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2015، وذلك من خلال مركز "جاجارين" الروسي لإعداد رواد الفضاء الذي قام بتدريب رائدي فضاء من الإمارات.
وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري عاد أول رائد فضاء إماراتي وعربي هزاع المنصوري من المحطة الفضائية الدولية على متن مركبة الفضاء الروسية "سويوز" بعد أن قضى 8 أيام هناك، وسبق ذلك إطلاق قمر "ياسات 1 بي" الإماراتي في أبريل/نيسان 2012 بواسطة صواريخ روسية.
على صعيد آخر، أطلقت موسكو المركز الروسي للابتكارات الرقمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في دبي الذي يعد مبادرة مشتركة من الدولتين بهدف دعم الشركات الروسية في الأسواق الإماراتية. وهناك آفاق رحبة للتعاون بين البلدين في مجالات نقل التكنولوجيا والطاقة النووية السلمية والطاقة المتجددة.
ثالثها، التعاون العسكري التقني، تعد الإمارات أهم شركاء روسيا الخليجيين في هذا المجال، ففي فبراير/شباط 2015 وقعت روسيا والإمارات العربية المتحدة مذكرة تتيح تزويد مدرعة "أنيجما" الإماراتية بمنظومة "أ-أو 220 أم"، وذلك على هامش معرض الأسلحة الدولي "أيدكس 2015" في أبوظبي، وكان المعرض قد شهد حضوراً روسياً قوياً، حيث شاركت شركات التصنيع العسكري الروسي بنماذج ومعدات جديدة بمواصفات تقنية متميزة.
كما تم توقيع مذكرة نوايا بين روسيا والإمارات حول شراء الأخيرة مقاتلات "سو-35" الروسية الملقبة بـ"وحش" سلاح الجو الروسي. ومن أبعاد التعاون العسكري المهمة بين البلدين تحديث الأسلحة الروسية التي بحوزة الإمارات، ومنها عربات القتال المدرعة من طراز "بي.إم.بي - 3" التي تستخدمها القوات المسلحة الإماراتية.
يأتي هذا التعاون "الصلب" في سياق من التقارب الثقافي والإنساني بين البلدين تنفرد به الإمارات عن غيرها من دول الخليج، حيث تمثل الجالية الكبيرة الناطقة باللغة الروسية في الإمارات لُحمة بشرية وثقافية مهمة بين البلدين ما يؤهلهما لعلاقات أكثر قوة.
كما أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الوحيدة في منطقة الخليج موجودة في الشارقة. وقد انعكس ذلك في زيادة حركة السياحة بين البلدين، حيث زار الإمارات نحو 900 ألف سائح روسي العام الماضي. وهذا الرقم مرشح للتضاعف بعد إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين في 17 فبراير/شباط من العام الجاري.
وخلال الفترة من 29 أغسطس/آب حتى الأول من سبتمبر/أيلول الماضي، وتحت رعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، عُقدت في موسكو "قمة أقدر" العالمية، بالتزامن مع منتدى موسكو العالمي، بهدف نقل تجارب الإمارات الرائدة في تمكين الأفراد والمجتمعات إلى المسرح العالمي، وكانت المرة الأولى التي تعقد خارج الإمارات، حيث كانت القمة الأولى والثانية عامي 2017 و2018 في أبوظبي.
كما حصلت الشارقة على لقب "ضيف شرف مميز" لمعرض موسكو الدولي للكتاب الذي عُقد في سبتمبر/أيلول الماضي، وهناك خمس جامعات روسية على الأقل تعمل على فتح فروع لها في الإمارات.
ويظل التفاهم السياسي والاستراتيجي والتعاون في القضايا الإقليمية محل الاهتمام المشترك ركيزة أساسية للشراكة المستقبلية بين البلدين، وقد أكد الشيخ محمد بن زايد خلال زيارته لروسيا كون "روسيا دولة كبرى لها دورها المهم والمحوري في تحقيق الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والعالمي، وأن استمرار التنسيق والتشاور معها بشأن قضايا المنطقة أمر ضروري لضمان تحقيق الأمن والاستقرار المنشود".
هناك العديد من المصالح المشتركة التي تربط بين الإمارات وروسيا، ويأتي على رأسها موقف البلدين الثابت والحاسم بشأن مواجهة ظاهرة الإرهاب والتطرف، باعتبارها تشكل تهديداً عالمياً يستهدف الكل دون استثناء، يتطلب مزيداً من التنسيق والتعاون الدولي والإقليمي لمواجهته.
وهناك تفاهمات واسعة النطاق بين البلدين حول الملف الليبي، وكذلك حول التهديد الذي تمثله العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا على الأمن والاستقرار الإقليمي، وأيضاً إزاء التصعيد الذي شهدته منطقة الخليج في ضوء أزمة مضيق هرمز التي أطلقت موسكو على إثرها مبادرتها حول "المفهوم الروسي للأمن الجماعي في الخليج"، في 23 يوليو/تموز 2019، وتتضمن إقامة منظومة أمنية إقليمية واتخاذ إجراءات لبناء الثقة بين الأطراف كافة.
وهناك العديد من الأطر التي يمكن للبلدين التحرك في إطارها خليجياً وعربياً أهمها "الحوار الاستراتيجي روسيا - مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، و"منتدى التعاون الروسي العربي".
ختاماً يمكن القول إن العلاقات الإمارتية الروسية قد بدأت فصلاً جديداً من تاريخها في اتجاه شراكة مستقبلية آمنة وواعدة تخدم مصالح البلدين وتطلعات الشعبين.
aXA6IDMuMTUuMTg2LjU2IA== جزيرة ام اند امز