ما تزال الحكومة الأمريكية هي أكبر حكومة في العالم تستثمر الأموال العامة في البحوث والتطوير
طبقا للاتفاق التجاري المرحلة 1 سترفع الصين قيمة مشترياتها من البضائع والخدمات الأمريكية بقيمة 200 مليار دولار على مدى عامين تضاف على مشتريات أساسية بقيمة بلغت 186 مليار دولار في عام 2017. وطبقا للاتفاق تشمل التزامات الشراء مشتريات إضافية من منتجات الطاقة الأمريكية بقيمة 54 مليار دولار وزيادة قدرها 78 مليار دولار من مشتريات السلع المصنعة، و32 مليار دولار من المنتجات الزراعية، ونحو 38 مليار دولار زيادة في مشتريات الخدمات.
ما تزال الحكومة الأمريكية هي أكبر حكومة في العالم تستثمر الأموال العامة في البحوث والتطوير، حيث بلغت النسبة المخصصة لهذا المجال في عام 2016 على سبيل المثال نحو 2.79% من الناتج المحلي الإجمالي.
وسوف يتم هذا الالتزام الصيني في مقابل تعليق زيادة الرسوم الجمركية على سلع صينية تشمل الهواتف المحمولة وأجهزة الكومبيوتر الشخصية والألعاب، إلى جانب خفض الرسوم الجمركية إلى النصف لتبلغ 7.5% على سلع صينية أخرى تبلغ قيمتها نحو 120 مليار دولار تشمل شاشات التليفزيون المسطحة وسماعات البلوتوث والأحذية وغيرها.
كما تعهدت بكين في الاتفاق باتخاذ إجراءات ضد البضائع المقرصنة أو المقلدة، إلى جانب شمول الاتفاق لوسائل أخرى تكفل حماية قوية لحقوق الملكية الفكرية. إضافة إلى إجراءات خاصة بعدم التلاعب بسعر الصرف من أجل الحصول على مكاسب تجارية، وذلك بخفض سعر صرف العملة الصينية أمام الدولار الأمريكي بشكل يسمح للسلع الصينية بأن تكون أرخص مما يعطيها ميزة تنافسية في السوق الأمريكي، وفي الوقت ذاته ترفع من أسعار السلع الأمريكية مما يحرمها من إمكانية المنافسة في السوق الصيني.
ولم يمس الاتفاق التجاري المرحلة 1 بين الولايات المتحدة والصين الرسوم الجمركية على سلع صينية تقدر قيمتها بنحو 360 مليار دولار، أو نحو ثلثي الواردات الأمريكية من الصين وذلك حتى يتم التباحث بشأنها في مفاوضات المرحلة 2. بل إن وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين صرح لصحيفة وول ستريت جورنال بأن اتفاق المرحلة 2 لن يتضمن بالضرورة مفاجأة كبرى في صورة إلغاء جميع الرسوم الجمركية، وقال إنه ربما تلغى بعض الرسوم تباعا. وكان كل من الممثل التجاري الأمريكي روبرت لايتهايزر ووزير الخزانة الأمريكي حريصين عشية توقيع الاتفاق في البيت الأبيض على أن الاتفاق لا يتضمن أي تخفيض في الرسوم الجمركية غير تلك المعلن عنها.
وفي الإجمال يمكن القول إن اتفاق المرحلة 1 لا يشكل اختراقا بحيث يمكن القول إنه اتفاق كبير حقا، بل يمكن القول إنه مجرد هدنة في الحرب التجارية بين البلدين. ورغم التنازلات الصينية الواضحة في الاتفاق إلا أنها تنازلات تأتي ضمن الاتجاه الذي كانت توافق عليه الصين منذ بداية هذه الحرب بين الطرفين. فقد ركز الجانب الأمريكي على أن الصين هي أكبر البلدان تحقيقا لفائض في التجارة السلعية مع الولايات المتحدة، حيث بلغ هذا الفائض نحو 375 مليار دولار في عام 2017، ورغم بداية الحرب التجارية الأمريكية ضد الصين في عام 2018 فقد سجلت الولايات المتحدة عجزا تجاريا مع الصين في العام ذاته بلغ 419 مليار دولار. ومنذ البداية كانت بكين واضحة في قولها إنها مستعدة للتباحث في شأن خفض هذا الفائض. وكان العرض الصيني يركز ليس على خفض الصادرات الصينية، بل على زيادة واردات الصين من السلع الأمريكية والملاحظ أن أغلبها من السلع الأولية أو الغذائية. وهنا كان الطريق الواضح والذي تنفيه الصين حاليا هو استبدال الصين السلع الأمريكية بسلع مماثلة كانت تستوردها من بلدان أخرى مثل الغاز الطبيعي والنفط وفول الصويا واللحوم وغيرها من السلع المماثلة، وليس صحيحا أن الاتفاق كما تقول الصين لن يكون على حساب أطراف أخرى، بل إنه سيأتي على حساب بعص الأطراف وعلى رأسها البرازيل والأرجنتين. وفي ديسمبر 2018 تم لبعض الوقت تجميد الإجراءات التي كان مزمعا اتخاذها برفع الرسوم الجمركية مع بداية عام 2019 في كل من البلدين، في ظل استجابة الصين آنذاك لمطالب الولايات المتحدة بزيادة الصين لمشترياتها من السلع الأمريكية وعلى رأسها السلع الزراعية مثل فول الصويا واللحوم، وذلك إدراكا من بكين للأهمية السياسية لهذا المطلب للرئيس الأمريكي حيث تضم الولايات الزراعية وخاصة التي تزرع وتصدر فول الصويا و/ أو التي تنتج اللحوم جزءً رئيسيًا من قاعدته الانتخابية التي يرغب في الحفاظ عليها في انتخابات الرئاسة في نوفمبر من العام الحالي. وإن كان اتفاق ديسمبر 2018 لم ينجح فها هو الاتفاق الجديد ينجح ولكن في نفس الاتجاه. قد تكون الولايات المتحدة قد انتزعت مكاسب أكبر من بكين بإجبارها على مضاعفة قيمة مشترياتها من السلع الأمريكية لخفض العجز في الميزان التجاري، لكن ما نحاول التأكيد عليه هو أن هذا الضغط الأمريكي الناجح قد أتى في اتجاه توافق عليه بكين من البداية.
أما ما يتعلق بالتلاعب بالعملة، فقد أشار عدد من الاقتصاديين الأمريكيين إلى أن الصين قد توقفت في واقع الأمر وطبقا للمعايير الأمريكية ذاتها عن استخدام سعر الصرف كواحد من أدواتها في المنافسة التجارية منذ عام 2015.
ويشير عدد من الاقتصاديين إلى أن اتفاق المرحلة 2 قد يكون صعبا بل وبعيد المنال، لأنه يرتبط بقضايا التطور الاقتصادي الصيني مستقبلا. حيث ستنصب مفاوضات المرحلة 2 على قضية التكنولوجيا والتطور الصناعي الصيني. وفي هذا الجانب لا يقتصر النقد الموجة للصين على الولايات المتحدة وحدها، بل يضم أيضا الاتحاد الأوروبي واليابان. وتشكو هذه الأطراف من بعض الممارسات الصينية مثل إجبار الشركات الراغبة في العمل في السوق الصيني على إفشاء أسرارها التكنولوجية لشركائها الصينيين. إلى جانب سياسة الصين الصناعية حيث تقوم الدولة بدعم الشركات العامة وتقديم الدعم لمجال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي فيما ترى واشنطن أنه يمثل انتهاكا لقواعد المنافسة التجارية الحرة.
وتهدف الولايات المتحدة هنا إلى إعاقة، بل ووقف إن استطاعت، قدرة بكين على إجراء تحولات هيكلية عميقة في اقتصادها. فما تخاف واشنطن منه هو إعلان بكين هدف التحول إلى اقتصاد متقدم ومتخصص في إنتاج وتصدير السلع المتقدمة تكنولوجيا بحلول عام 2025 وهي الاستراتيجية التي تتبناها الصين منذ عام 2015.
ويرى الكثيرون أن المفاوضات سوف تكون شاقة وأن التنازل الصيني يكاد يكون مستحيلا. وسياسة الصين الصناعية بدعم الحكومة للشركات في إطار استراتيجية صنع في الصين 2025 هو كما يشير رئيس الوزراء الاسترالي السابق كيفين رود من شبه المستحيل حل المخاوف الأمريكية بشأنه. خاصة أن كافة الدول تقدم في الحقيقة مثل هذا الدعم الحكومي وتحديدا في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا. فما تزال الحكومة الأمريكية هي أكبر حكومة في العالم تستثمر الأموال العامة في البحوث والتطوير، حيث بلغت النسبة المخصصة لهذا المجال في عام 2016 على سبيل المثال نحو 2.79% من الناتج المحلي الإجمالي، وبما يقدر بنحو 520 مليار دولار. بل وكان المعتاد أن تزيد هذه النسبة على 4% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقود التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية.
وفي النهاية فقد يكون من الصعب وضع قواعد يمكن وفقا لها تحجيم الدعم المقدم للشركات العامة أو البحث العلمي والتطوير التكنولوجي الصيني، كما سيكون من الصعب جدا مراقبة مدى الالتزام بهذه القواعد إذا ما تم وضعها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة