أوروبا فقدت شهيتها في عقد معارض الإكسبو بعد بروكسل 1958، لكنها ازدهرت في أماكن أخرى مثل اليابان وأمريكا الشمالية
إكسبو دبي 2020 على الأبواب في شهور عديدة، مؤكداً لنا أنه ثمرة من ثمار ما وصلت إليه معارض إكسبو العالم لأنه يختزل تاريخه الطويل منذ أول إكسبو عُقد في لندن 1851 حتى الوقت الحاضر في إطار عصري وحضاري وكوني عظيم لا يمكن أن تقدمه مدينة أخرى سوى دبي بحيويتها وانفتاحها وتفاعلها وما تمتلكه من طاقات معروفة. ولعل شعاره "تواصل العقول وبناء المستقبل" أكبر دليل على ذلك إذ تم استيحاء شكل الإكسبو وتصميمه من قطع أثرية ذهبية صغيرة تمثل تواصل شعوب العالم، وهي تعود إلى ما قبل أكثر من أربعة آلاف سنة في الإمارات، وُجدت منذ القدم عبر الحضارات، وتتماشى مع أولوياته الأولى القائمة على مبدأ تبادل الأفكار الخلاقة والاحتفاء بالإبداع البشري.
إضافة إلى أن إكسبو دبي يسعى إلى تقريب المسافات بين بلدان العالم، وإيجاد ما هو مشترك في الاقتصاد والتجارة والثقافة والفنون، تأكيداً للشعار الخلاق والإنساني والطموح في "تواصل العقول وبناء المستقبل"
مما لا شك فيه، أصبح الإكسبو العالمي يُلخص مرحلة ما بعد الاستعمار لأنه تضمن مفاهيم كثيرة منها: التعبير عن الهوية والوطنية الثقافية والانفتاح على الثقافات الأخرى. ولنا من إكسبو العالم أمثلة بارزة على ذلك: أثار إكسبو شانغهاي، على سبيل المثال، الجدل الفلسفي والثقافي عندما طرح موضوع الاستعمار والثقافة القومية والسيادة في البلدان الآسيوية والأفريقية المشاركة في الإكسبو من خلال تبني لغة التقاليد والتراث، وإعادة إنتاجها في عصر الإمبراطورية الأوروبية، من خلال أساليب عمارتها المتنوعة وصناعاتها المتعددة لما بعد مرحلة الكولونيالية.
ولعب إكسبو شانغهاي دوراً هاماً كمسرحٍ لأهم اللاعبين العالميين، في تواصلهم مع الجمهور، ونقاشهم حول مستقبل الاستدامة الحضرية، وعلاقة الإنسان بالطبيعة ليس في أوروبا بل في جنوب شرق آسيا، وأفريقيا والأمريكتين، وقدم نموذجاً من الإكسبو الجامع بين التكنولوجيا والثقافة والتوازن بينهما. وأصبح الإكسبو بمثابة ميدان للتعلم من الثقافات الأخرى، والأشكال الثقافية المادية وغير المادية من فنون وحرف ومصنوعات، وآلات، وغيرها. أما إكسبو باريس، فقد انفتح على الثقافات الأخرى، ساعياً إلى تطبيق الديمقراطية رغم الانتقادات التي وجهها المفكر إرنست رينان للحكومة الفرنسية آنذاك، باعتبارها ذهبت بعيداً في شكل الإكسبو التقليدي، لأنه لم يتضمن تراث فرنسا الشعبي. والأهم من كل ذلك أن نابليون فتح الأبواب واسعاً أمام الشعوب الأخرى لتشارك بمعارضها على أسس المنافسة الحرة في التركيز على الفنون الجميلة التي تجاوزت ما قدمه البريطانيون، ومن ضمنها لوحات الفنانين: جان أوغست، دومنيك أنغريس، وأوجين ديلاكروا، ورافائييل الذين أثروا على التذوق الفني والجمالي، جامعاً الفنانين والصناعيين في آن واحد. وأصبحت المنافسة على أشدها بين فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على مدى عقود، وهي منافسة سلمية. وجاءت معارض الإكسبو في آسيا وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، لكي تغيّر من مفهوم هذه المنافسة رغم ما أشاعه خطاب الإمبريالية عبر مصطلحي "نحن" و"هم"، للتعبير عن أيديولوجية الطرفين. كان ذلك خرقاً لما أريد للإكسبو أن يكون نموذجاً للمنافسة السلمية بين الشعوب حيث شهد الحكم الاستعماري الأوروبي نهاياته في كل من الكونغو والجزائر وتونس والمغرب وغيرها.
ومن المعروف أن أوروبا فقدت شهيتها في عقد معارض الإكسبو بعد بروكسل 1958، لكنها ازدهرت في أماكن أخرى مثل اليابان وأمريكا الشمالية. وبعد الحقبة الاستعمارية في القرن العشرين، لم يُولَ اهتمام كبير لثقافة الأمم والشعوب، فيما عدا إكسبو إشبيلية 1992، الذي أولى اهتماماً لدور التكنولوجيا في إنتاج الثقافة من خلال استخدام تقنيات شاشات العرض الإلكترونية مما خلق شكلاً من أشكال التنوّع الثقافي. وركزت الأجنحة الأفريقية والآسيوية على تقديم إنتاجها الحرفي الثقافي، وطرح تساؤلات جادة حول نهاية الاستعمار وتداعياته، حيث قام المهندسون الكمبوديون بتقديم العمارة الأنغورية، في عناصرها الثلاثة: الوجوه المبهرة، والأبراج المهيبة، والغابات الزاحفة، تلك التي تمتد أصولها إلى آلاف السنين بعد محاولات استعمارية عديدة من أجل طمرها وإخفائها وتهميشها. ثم بدأت الهندسة المعمارية تستوحي من ثقافات الأمم حيث استوحت المكسيك من قصر الأزتيك، والإكوادور من الإنكا. وهكذا مما ساعد على تواصل الإكسبو. ومع التحول النوعي الذي حصل في بنية الإكسبو ومنطق تفكيره، أي الانفتاح على الأمم والشعوب، أصبحت تايوان والصين وتايلاند وكوريا من أكبر الأسواق العالمية في سنوات قليلة.
يذّكرنا إكسبو دبي 2020 بكل هذا التطور الذي قطعته الأمم الأخرى في إرساء مبادئ المنافسة السلمية بين البلدان في تقديم ابتكاراتها وإبداعاتها، كجزءٍ من تطور البشرية. وهكذا تتحول دبي إلى بوابة لأكثر من 190 بلداً مُشاركاً، تستفيد من إنجازات البلدان المتقدمة، وداعماً للبلدان النامية مثل بلدان أفريقيا، المليئة بالطاقة والموارد البشرية، وما تشترك مع الثقافة العربية والإنسانية بكل تنوعاتها، إضافة إلى أن إكسبو دبي يسعى إلى تقريب المسافات بين بلدان العالم، وإيجاد ما هو مشترك في الاقتصاد والتجارة والثقافة والفنون، تأكيداً للشعار الخلاق والإنساني والطموح في "تواصل العقول وبناء المستقبل".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة