لم يحدث قط أن بلغت قضية القدس هذا القدر من التعقيد والخطورة مثلما هي الحال الآن مع اقتراب تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب
لم يحدث قط أن بلغت قضية القدس هذا القدر من التعقيد والخطورة مثلما هي الحال الآن مع اقتراب تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الذي أعطى أكثر من مؤشر إلى نيته الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
صحيح أن هذا الملف لم يكن بعيداً من نقاشات الدوائر السياسية الأميركية، فكان ورقة في الدعاية الانتخابية لبعض مرشحي الرئاسة، كما في المزايدات الحزبية وضغوط اللوبي الصهيوني وأنصاره في الولايات المتحدة، لكن الصحيح أيضاً أن ما من رئيس أميركي تجرّأ على تغيير الوضع القائم في القدس، مستفيدين جميعاً من قرار للكونغرس عام 1995 يدعو إلى نقل السفارة في موعد أقصاه 31 أيار (مايو) 1999، لكنه يعطي الرئيس الحق في تأجيل التنفيذ ستة أشهر قابلة للتجديد اذا اقتضى الأمن القومي ذلك. لا ننسى كذلك أن واشنطن امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن الرقم 478 لعام 1980 الذي دعا الدول الأعضاء الى سحب بعثاتها الديبلوماسية من القدس.
فماذا تغيّر اليوم؟
ما كان من الممكن أن يخطر في بال ترامب أو غيره تغيير وضع القدس لولا نجاح إسرائيل في الاستفراد بالمدينة، ولولا العجز الفلسطيني والعربي والإسلامي، والصمت الدولي الطويل. لقد تُركت القدس وحيدة أمام حكومات إسرائيلية جانحة بقوة نحو اليمين المتطرف، عملت بشكل يومي وبنفَس طويل على تهويد المدينة وتغيير وضعها المادي من خلال الاستيطان، وتغيير التركيبة السكانية لمصلحة اليهود، وتقويض المرجعيات القانونية، فضمّت المدينة، وحاصرت أهلها المقدسيين بسحب الهويات ومصادرة أراضيهم وحرمانهم من رخص البناء وهدم المباني غير المرخصة، وأبعدت واعتقلت، و «أسرَلت» المناهج، وغيّرت معالم المدينة، وهوّدت أسماء شوارعها، وأطلقت حملات إعلامية عن «حقها التاريخي والديني» بها، في غياب أي مرجعية علمية آثارية. كل هذا تلاقى أخيراً مع وضع إقليمي خطير واضطرابات في أكثر من بلد عربي، ثم مع انتخاب رئيس أميركي شعبوي ومعاد لنهج المؤسسة الأميركية التقليدية ومشاكس، لكن تداعب خياله فكرة أن يكون الرئيس الذي يتوصل الى حل للصراع الفلسطيني– الإسرائيلي.
فهل يفعلها ترامب؟ هل يحسم مصير القدس بجرة قلم لتصبح «العاصمة الموحدة» لإسرائيل؟ هل يأخذ بتوصيات مستشاريه الصهاينة من أمثال مبعوثه لعملية السلام، صهره جاريد كوشنر، وسفيره الى إسرائيل ديفيد فريدمان المؤيدين لنقل السفارة والاستيطان، أم يستمع لنصائح أنصار عملية السلام، مثل وزير دفاعه جيمس ماتيس الذي لا يعترف إلا بتل أبيب مقراً للسفارة، ويعتبر أن الاستيطان عقبة أمام السلام؟ هل يتجاهل رسالة «مؤتمر باريس الدولي للسلام» وموقف المجتمع الدولي ووساطة الرئيس فلاديمير بوتين وبيان الفاتيكان، ويغامر باحتمال نشر الفوضى في المنطقة وإشعال الحرائق؟
ليس من السهل الإجابة عن هذه الأسئلة، وكلها يقع في ضبابية الرؤية المستقبلية لترامب، كما يخضع للتناقضات والتوازنات داخل مؤسسات الحكم الأميركية و «الدولة العميقة» التي لا تزال تحكم حتى البيت الأبيض، يضاف اليها رادع القوانين الدولية، وردود الفعل العربية والإسلامية والأوروبية والدولية، فهل تعلن السلطة الفلسطينية انقلاباً على اتفاق أوسلو وتسحب اعترافها بإسرائيل؟ وهل تُستنفر الدول العربية والإسلامية فتستدعي سفراء أميركا لديها للاحتجاج؟ وهل تخرج شعوبها إلى الشوارع للدفاع عن القدس باعتبار أنها قلب الصراع؟
أم ننتظر معجزة؟!
الأمر يستدعي القلق، ويستدعي معه ما كتبته رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير في مذكراتها ليلة أحرق يهودي المسجد الأقصى عام 1969، فقالت إنها لم تنم وهي تتخيل أن العرب سيدخلون إسرائيل أفواجاً من كل صوب. لكن الصباح طلع ولم يحدث شيء... وهو حالنا الدائم منذ ذلك الوقت، كما اليوم ونحن نتفرج على الاستفراد بالقدس وتظهير الجزء الثاني من «وعد بلفور» البريطاني المشؤوم (الذي منح اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين)، إنما هذه المرة بتوقيع ترامب، حتى تكتمل المهزلة، فيما التاريخ يعيد نفسه.
* نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة