قد يواجه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب محاكمة بعد أخرى، إلا أن الظاهرة الترامبية البعيدة عن المحاكمة هي التي ستبقيه سجينا لوقت طويل.
وتواجه ترامب 4 اتهامات جديدة، يُعتقد أنها الأخطر من بين كل القضايا الأخرى التي يُحاكم عليها. تشمل هذه الاتهامات التآمر للاحتيال على الولايات المتحدة، والتآمر لعرقلة إجراء رسمي، وإعاقة إجراء رسمي، والتآمر على حقوق المواطنين بالاقتراع.
تدور هذه الاتهامات حول محاولته قلب نتائج الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، في ولاية جورجيا خاصة، عندما طلب من حاكمها أن "يُوجد له أصواتا" تكفي لقلب النتيجة لصالحه، ولأنه حاول إعاقة عمل المجمع الانتخابي في الولاية، ومن ثم حاول إعاقة العملية التقليدية لجمع أصوات المجمعات الانتخابية داخل الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، والتدخل في حق المواطنين في التصويت وفرز أصواتهم.
والأدلة ضده ساطعة، صوتا وصورة في كل هذه الاتهامات.
ما ليس ساطعا هو أن دوافعه للتآمر على الآليات الانتخابية، قائمة بالأساس على نظرية سائدة في أوساط اليمين المتطرف الأمريكي، ويدعمها كل الذين بقوا متمسكين بدعمه داخل الحزب الجمهوري، وهي أن البلاد تواجه مؤامرة يسارية، تتعمد تشويه الهوية الأمريكية، وتجعلها تخضع لتأثيرات الأقليات والمهاجرين وتشجعهم على التفوق على حساب الأمريكيين الأصليين، من ذوي العرق الأبيض، وتقيد الحريات والحقوق ومنها الحق بحمل السلاح، وتجعل الحكومة قوة مسيطرة من خلال الإعلام، وتهدد الاقتصاد بمزاعم عن التغيرات المناخية.
ولا حاجة إلى أي حقائق أو أدلة لهذه النظرية. لأنها كلها قائمة على "قناعات" مسبقة. ويمكن الدفاع عنها بالمبالغات، ما يجعل تصديق الأكاذيب فيها أمرا مقبولا طالما أنها تدعم في النهاية فكرة أن هناك قوى غامضة تحرك الولايات المتحدة في الاتجاه غير المطلوب.
هذه القناعات هي التي صنعت ترامب. كنت تستطيع أن تراها في مجموعة "حزب الشاي" داخل الحزب الجمهوري منذ العام 2009 احتجاجا على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها رئاسة باراك أوباما، واعتبرتها إصلاحات "اشتراكية"، ودعت إلى تقليص النفقات العامة وأن تكف الدولة عن لعب دور اجتماعي، في قضايا الصحة العامة والرعاية الاجتماعية والوظائف.
ولا يزال بوسع المرء أن يرى هذه القناعات داخل الكونغرس تصدح بقوة. وكان السجال حول رفع سقف الديون الاتحادية، أحد أقرب الأمثلة على ذلك، ومثله السجال على التخصيصات الاجتماعية في الميزانية.
ويقول جيمس كومي، مدير وكالة "إف.بي.آي" السابق الذي أقاله ترامب من منصبه في مايو/أيار 2017 بسبب التحقيقات حول علاقة ترامب بروسيا، إن مؤيدي ترامب ليسوا في زيادة. هناك سقف لأرقام استطلاعات الرأي المؤيدة له، ولكنه "شدد قبضته على أولئك الذين دعموه.
وهذا جزء من الطبيعة البشرية التي رأيتها مراراً وتكراراً في القضايا الجنائية. فالأشخاص الذين تعرضوا للاحتيال يصارعون أنفسهم لأجل عدم الاعتراف بأنهم حمقى، ويميلون إلى الانجراف بشكل أعمق وأعمق من خلال الأكاذيب الجديدة والجديدة. وإلا ماذا سيفعلون؟ سينظرون إلى الصور التلفزيونية ليوم 6 يناير/كانون الثاني، ليروا أنها تهمس لهم بالقول: "أيها الأحمق - انظر إلى ما فعلته ببلدك. ولا يستطيع معظم الناس سماع هذا الهمس".
فمثلما أن المبالغات والمخاوف ونظرية المؤامرة التي صنعت ترامب، لا تزال قائمة، ولا يمكن محاكمتها، فإن ترامب سيظل قادرا على كسب التأييد، ضمن هذه القاعدة، كلما واجه اتهامات جديدة.
لا تهم الأدلة. ولا الحقائق. لأن الأدلة والحقائق لم تشكل، في الأصل، أساسا للقناعات التي جعلت من ترامب قادرا على أن يرتكب أي شيء، وهو على "قناعة" تامة بأنه على حق.
يسأل أنصاره أنفسهم: "وماذا يعني أن يدفع ترامب أموالا ليكسب صمت امرأة زعمت أنه مارس الجنس معها؟ وماذا يعني الاحتيال الضريبي في هذه الحالة؟".
القانون لا يهم، هو الآخر.
وها هنا تكمن محنة الحزب الجمهوري مع نفسه. فأولئك المؤيدون لا يزالون قادرين على جعل ترامب مرشحا وحيدا للحزب الجمهوري، حتى ولو تم سجنه.
الاستطلاعات تقول إنه بينما يمكن لترامب أن يكسب أغلبية تزيد على 50% من أصوات الناخبين الجمهوريين، فإن منافسيه ظلوا يدورون حول نسب لا تتجاوز 15%.
يعني ذلك أن الحزب سينقسم، من الناحية الواقعية، بين تلك الكتلة صاحبة "القناعات" الصلبة، وبين الجمهوريين المعتدلين. ونصف الحزب لا يكفي لكسب الرئاسة من جديد.
ساعتها، قد يلعق الجمهوريون جراح الهزيمة، وقد يُنكر ترامب هزيمته مرة أخرى، ولكنه لن يجد من يقدم له عفوا رئاسيا يُخرجه من السجن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة