تأثير ترامب.. ساكن البيت الأبيض يعيد تشكيل أوروبا
منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي، دخلت أوروبا مرحلة غير مسبوقة من الارتباك وإعادة الحسابات.
فمن الدفاع إلى التجارة، ومن المناخ إلى الهوية السياسية، لم يعد بالإمكان فصل أي ملف أوروبي عن تداعيات السياسات الأمريكية الجديدة.
ومع أن المحيط الأطلسي لا يزال يفصل جغرافيا بين القارتين، اخترقت قرارات ترامب العمق الأوروبي، وفرضت على القادة الأوروبيين واقعًا مختلفًا في العلاقات عبر الأطلسي، عنوانه الرئيسي: الاعتماد على الذات أو تحمّل العواقب، وفقا لموقع "بوليتكو".
فعلى الصعيد الاقتصادي، تضررت الشركات وكذلك المستهلكون الأوروبيون مباشرة من الرسوم الجمركية الأمريكية، بينما تلقّى نشطاء المناخ ضربة قاسية مع انسحاب واشنطن من اتفاقيات دولية محورية، وعلى رأسها اتفاق باريس.
وفي المجال الأمني، وُضعت الميزانيات الوطنية تحت ضغط غير مسبوق بسبب إصرار ترامب على رفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي، في وقت تعيد فيه الجيوش النظر في عقائدها، وتستثمر مجددًا في التسلّح والاستعداد لحروب تقليدية كبرى.
أما الساحة السياسية، فقد تحولت إلى مسرح استقطاب حاد، بين من يقدّم نفسه حارسًا لأوروبا في مواجهة “الترامبية”، ومن يرى في خطاب “ماغا” نموذجًا يُحتذى لموجة شعبوية أوروبية صاعدة.

هذا الاتساع في التأثير جعل من الصعب حصر نتائج الولاية الثانية لترامب، ما دفع مجلة بوليتيكو إلى استطلاع آراء مفكرين وخبراء من أوروبا والولايات المتحدة حول السؤال الجوهري: ما أكبر تغيير أحدثه ترامب في أوروبا؟
ورغم تنوّع الإجابات — من تآكل الثقة بحلف الناتو، إلى إعادة تعريف الهوية السياسية، وصولًا إلى التراجع المناخي — فإن خلاصة واحدة تكررت بوضوح: أوروبا تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي، لحظة “إما السباحة أو الغرق”.
ويرى المحلل الأمني الهنغاري أتيلا ديمكو أن ترامب أسقط وهم “القيم المشتركة” بين أوروبا والولايات المتحدة، كاشفًا عن انقسام عميق حول قضايا مثل التعددية الثقافية، والهجرة، والصوابية السياسية، والنوع الاجتماعي.
هذا الانقسام، بحسب ديمكو، لا يفصل أوروبا عن أمريكا فحسب، بل يشقّ المجتمعات الأوروبية نفسها. والأهم أن ترامب أنهى ما يسميه “العطلة الاستراتيجية” لأوروبا، موضحًا أنه على القارة أن تدفع الثمن الكامل تقريبًا لأمنها ولدعم أوكرانيا، بدل الاكتفاء بالشعارات والخطابات.
في المقابل، ترى كاي بيلي هاتشيسون، السفيرة الأمريكية السابقة لدى الناتو، أن ترامب قد يكون — من حيث لا يقصد - قدّم خدمة لأوروبا، إذ دفع القارة العجوز إلى تحمّل مسؤولية أكبر عن دفاعها قد يؤدي، إذا أُحسن استثماره، إلى بناء قدرات عسكرية أوروبية أقوى وأكثر تكاملًا، مع فوائد اقتصادية مرافقة.
لكنها تشدد على أن تقاسم الأعباء لا ينجح إلا إذا قاد إلى قدرات متوافقة وقابلة للعمل المشترك ضمن إطار الناتو.
أما أستاذ العلاقات الدولية مانفريد إلسيغ، فيعتبر أن أخطر ما أحدثه ترامب هو زعزعة الثقة، التي شكّلت حجر الأساس في الشراكة الأمريكية-الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. فقد تراجع الناتو، بوصفه جوهر “المجتمع الأمني” الغربي، واضطرت أوروبا إلى التفكير بجدية في بنية أمنية أكثر استقلالًا.
وترى الخبيرة الأوكرانية السابقة أليونا هليفكو أن الاضطرابات التي أطلقتها السياسات الأمريكية أجبرت أوروبا على “النضوج” سياسيًا واستراتيجيًا. فالقارة، بحسب وصفها، تنتقل ببطء من عقلية “حاملة الطائرات” الثقيلة والبطيئة إلى نموذج أكثر مرونة وسرعة، أشبه بـ“المسيّرة البحرية”.
ويظهر هذا التحول في صعود أدوار دول مثل ألمانيا وفرنسا ودول البلطيق، مع بروز بولندا كقوة محورية قد تلعب دورًا قياديًا في أوروبا المستقبل.
من زاوية الهوية السياسية، تؤكد ألكسندرا سويكا أن ترامب أحدث تأثيرًا مزدوجًا: فقد عزّز خطاب الشعبويين والمتشككين في الاتحاد الأوروبي، لكنه في الوقت نفسه دفع قطاعات واسعة من الأوروبيين إلى الالتفاف حول مشروع التكامل الأوروبي، ورفع منسوب الثقة بالمؤسسات المشتركة. وهكذا، بات ترامب عامل انقسام ووحدة في آن واحد.
أما سوندر كاتوالا، فيرى أن الأثر الأعمق لترامب يتمثل في تقديمه “رؤية ديستوبية” لمستقبل محتمل، تصبح فيه الولايات المتحدة نفسها مصدر تهديد للسلام والديمقراطية الغربية. هذا التصور، برأيه، أجبر الأوروبيين على إعادة التفكير في مسلّماتهم السياسية والاقتصادية، وولّد رد فعل معاكسًا يبحث عن بدائل ديمقراطية مناهضة للشعبوية الترامبية.