عندما تغلق مواقع التواصل الاجتماعي حسابات رئيس أكبر دولة في العالم دون أمر قضائي.
فهذا يعتبر تقييدا لحرية التعبير وتدخلا بشكل من الأشكال في السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية. لا يمكن التذرع بالقول إن الرئيس دونالد ترامب يحث على العنف ويدفع أنصاره نحو الانقلاب على الديمقراطية، فيبدو وكأنه استباح العالم الافتراضي لينشر الإرهاب.
لقد انقلبت شركات تويتر وفيسبوك ويوتيوب على ترامب بطريقة أثارت تساؤلات الكثيرين في داخل وخارج أمريكا. وعندما تبوح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بتحفظات على الطريقة التي أسكت بها الرئيس الأمريكي في الفضائين الافتراضي والحقيقي، فهذا يؤكد على أن ما يجري في واشنطن ليس مجرد قصاص للديمقراطية، وإنما هو انتقام سياسي غير مسبوق.
ماذا فعل ترامب ليستدعي حجبه إعلاميا ومعاقبته سياسيا وقانونيا واقتصاديا؟ هل هو تحريضه لمن اقتحموا الكونجرس خلال مصادقته على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن قبل أسبوعين؟ أم تشكيكه بنتائج الانتخابات التي شابتها تجاوزات لم تعرف البلاد مثلها من قبل؟ أو لعلها محاولاته لإلغاء بعض جوانب الحماية القانونية التي تتمتع بها مواقع مثل فيسبوك وتويتر في الوقت الراهن؟
ما شهدته المدن الأمريكية من رفض للرئيس المنتخب بايدن حدث مثله عندما فاز ترامب بانتخابات عام 2016، لكن حينها لم يُتهم الديمقراطيون ومرشحتهم هيلاري كلينتون بالتحريض على العنف في البلاد، على الرغم من أنهم اعترضوا على نتائج الانتخابات في الشوارع وتحت قبة الكونجرس، تماماً كما فعل أنصار ترامب ونواب الحزب الجمهوري في السادس من يناير/كانون الثاني الجاري.
خطاب ترامب قبيل جلسة المصادقة البرلمانية على نتائج الانتخابات الرئاسية شجع قلة من أنصاره على اقتحام الكونجرس، وهنا تكمن المشكلة، فهو ملهم لهم إلى حدود بات يخشى منها الديمقراطيون والجمهوريون على السواء. فقد تحول ترامب إلى ظاهرة تستقطب عشرات الملايين، وتهدد مستقبل كثير من أرباب السياسة والاقتصاد والإعلام في الولايات المتحدة وخارجها.
أراد ترامب أن يعبر أنصاره عن غضبهم مما جرى في انتخابات 2020 وما بعدها. ليس بحديثه عن التزوير فقط، وإنما انقلاب قادة ونواب في الحزب الجمهوري عليه ومجاراتهم للديمقراطيين في محاولة إزاحته عن المشهد السياسي، وهو الشخص الذي اختاره نحو خمسة وسبعين مليون ناخب قبل أقل من شهرين، ليقود البلاد في ولاية ثانية تحت شعار واحد يعرفه الجميع: "أمريكا أولاً".
ملاحظة الانقسام الكبير في الحزب الجمهوري الحاكم لا تحتاج إلى جهد كبير، كذلك ملاحظة النقمة المبالغ جداً فيها للديمقراطيين على ترامب، خاصة من قبل زعيمة الأغلبية في مجلس النواب نانسي بيلوسي، ولكن من يريد أن يغمض عينيه عن هذا وذاك، يمكنه ترديد ما يقال إن ترامب جر بلاده إلى التهلكة، ووضع ديمقراطية الولايات المتحدة على المحك.
لأن ترامب "عبث" بـ"أعظم" ديمقراطية في العالم هو "يستحق النفي والطرد من الحياة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة"، هذا ما يروج له الديمقراطيون والجمهوريون المنقلبون على ترامب، ولتصبح الرواية مقنعة وقابلة للتصديق، لا بد أن تتبناها وسائل الإعلام التقليدية، وتقوم منصات التواصل الاجتماعي بحظر الرئيس وحرمانه من أي فرصة للهجوم أو حتى الدفاع عن نفسه.
لقد فضح "حصار" ترامب قوة منصات الإعلام الجديد في الترويج لسياسات والتعتيم على أخرى، بات من الواضح كيف أن الممالك الافتراضية تؤثر على الدول الواقعية بشكل كبير، ولكن هذا التأثير يتضاعف عندما تتحد هذه المنصات مع أرباب السياسة والمال والإعلام التقليدي، لتقلب المعايير والمفاهيم وتجعل اللامعقول منطقياً ولا يحق لأحد نقده أو معارضته أو رفضه بالمطلق.
ما يخضع له ترامب اليوم من محاكمات يعج بتصفية الحسابات معه. لقد صنع ترامب لنفسه خصوما كثيرين في عوالم الاقتصاد والسياسة والإعلام داخل البلاد وخارجها، وظن أنه محصن بعشرات ملايين الأمريكيين. عندما شعر بالمؤامرة عليه لجأ إليهم، فلبوا النداء عاجلا وعلى طبيعتهم، ليكتشف العالم حينها أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً المدينة الفاضلة التي لا يشوبها عيب.
أنصار ترامب الذين اقتحموا مبنى الكونجرس ليسوا "مندسين" أو عملاء للخارج. هم أمريكيون عبروا عن غضبهم بالطريقة التي يمارسونها في حياتهم العادية. فدولة مثل الولايات المتحدة يباع فيها السلاح كما الخبز، وتعشش العنصرية في أزقتها المظلمة، ويترعرع المراهقون فيها على صخب "الأكشن" في الأفلام والواقع، يمكن ببساطة أن يقتحم مئات الشبان فيها مبنى الكونجرس.
خصومة ترامب مع المدرسة السياسية التقليدية، أو ما يسمونه بالدولة العميقة هي التي فجرت الوضع في الولايات المتحدة وليس اقتحام الكونجرس. وما بات يريده اليسار الأمريكي، إضافة إلى باقة كبيرة من الحزب الجمهوري، هو وأد الظاهرة الترامبية لأسباب عديدة، واحد منها فقط تحول "الشعبوية" إلى تيار سياسي قوي يهدد بتغيير خارطة القوى ومعادلات السلطة في البلاد.
لا شك أن "الشعبوية" التي اشتد عودها بعد وصول ترامب إلى السلطة عام 2016، خلقت إرباكا كبيرا في السياسة الدولية، في محصلة السنوات الأربع الماضية يمكن القول إن للظاهرة "الترامبية" حسناتها وسيئاتها، وما تفجر في الولايات المتحدة من إشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية بعد فشل ترامب في الحصول على ولاية ثانية، لن يكون عارضا ومؤقتا، ثمة تغيرات جوهرية ستطول المجتمع الأمريكي ربما تعجز الأحزاب عن احتوائها، ربما يفلحون في عزل ترامب الرئيس، ولكنهم لن يعزلوا ترامب الظاهرة، لأنها ببساطة ليست بذلك القبح الذي يدعونه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة