لاتزال الأمة الإسلامية تعاني من فتنة التكفير وشطحات المُكفِّرين، الذين يضعون الأمة الإسلامية - الواسعة الأصول والمدارك والأفهام - في قالب واحد لا يتسع لغيرهم.
فمن لم يدخل في هذا القالب كان ختم التكفير عليه جاهزاً، ثم تأتي آثاره الكثيرة التي ليس أقلُّها استحلالَ دمه، حتى لا يبقى في دائرة الإسلام الواسعة إلا من كان في دائرتهم الضيقة، وإذا بالجنة التي عرضها السماوات والأرض لن تجد من يملؤها، وبالرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء لم تحل إلا على من كان من أهل تلك الدائرة، فكان ذلك تحكماً بشرع الله الذي أنزله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي وصفه ربه سبحانه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وأنزل عليه قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، وهو أمر لأمته عليه الصلاة والسلام، وأما هو فقد كان «لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»، وكان إذا لم يأته وحي السماء لا يُشرِّع لأمته، ولا يجيب من سأله، حتى يعلم مراد الله في خلقه، وهو الذي قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، وعليكم بالطاعة وإن كان عبداً حبشياً، عضوا عليها بالنواجذ»، والقائل: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم».
ولعل هذا كله، وغيره كثير، لم يؤثر في موزعي التكفير على الشعوب والأمم، فضلاً عن خواص الناس، لما ترسخ في آذانهم من مفهوم الدائرة الضيقة، فتراهم لا يتورعون أن يرموا بالكفر والشرك جزافاً من لم يكن معهم، فضلاً عن التضليل والتبديع والتفسيق، ولعلهم لا يعرفون أو أنهم يتجاهلون قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدُهما»، وفي رواية «إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدُهما»، ولا ريب أن من يشهد الشهادتين، ويقيم الأركان الخمسة، ويؤمن بالأركان الستة أنه لا يكون أهلاً لحكمهم، لأنه مسلم ومؤمن، وقد يكون في أعلى مراتب الإحسان، فلا تقع عليه تلك الرمية النكراء، وقطعاً لا تذهب سُدى، بل ترجع على راميها؛ لأنه رضي أن يكون المؤمن عاصياً ربَّه بهذا الذنب العظيم، فحارَ عليه ما أراده لغيره، فهي رمية خطيرة أخطر من كل ذنب سواها، ولهذا نرى كتب السلف في باب العقائد تحذر من هذا الرمي الجزاف، لشدة خطره على الرامي في دينه، وعلى المرمي في نفسه التي تهدر، وعِرضه الذي يهتك، وماله الذي يستباح، وعلى المجتمع الذي سيعيش في هرج ومرج، كما فعلته الخوارج السابقون، وسار على نهجهم اللاحقون، وهو الخطر الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»، ولذلك لم يرض من حِبِّه وابن حِبَّه، أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، تسرُّعه في قتل من قال لا إله إلا الله، متعوذاً بها من السيف البارق فوق رأسه، بل قال له: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!»، قال أسامة: كان متعوذاً، فمازال يكررها، قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
هذا هو منهج الإسلام في ردع من يرمي غيره بالكفر، ويستبيح الدماء لاختلاف المرئيات وبُعد التصورات.
لقد جابت الفتوحات الإسلامية الأصقاع المختلفة، فلم تُغر على معبد ولا كنيسة ولا صومعة راهب؛ لأن بقاءها لا يناقض الإسلام، بل إنها كانت تُحمى وتبنى في ظل الخلافات الإسلامية المتعاقبة في كل عصر ومصر، وإذا وُجد من يشذ في المجتمع فيعتدي عليها بالهدم والإغارة، كانت الدولة تعيدها أو يعيدها الأخيار، كما فعل الليث بن سعد في بعض كنائس القبط التي اعتدى عليها بعض الولاة، لأن بقاءها لا يناقض الإسلام، ولا تدعو إلى الشرك والوثنية.. فما لهؤلاء القوم لا يعلمون، ولا إلى واقع الحياة ينظرون، ولا لغيرهم يحترمون، ولا لولاة الأمر يطيعون؟!
نسأل الله الهداية لخلقه والحفظ من أخذه ومقته.
نقلا عن الإمارات اليوم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة