على الرغم من أن تعبير "الترامبية" ظهر عام 2016، فإنه ذاع استخدامه في الأسابيع الأخيرة في الصحف ووسائل الإعلام.
مع اقتراب وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021. ودخل التعبير كأحد مُفردات الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) فورد فيها أنه مصطلح سياسي يشير إلى الأيديولوجيا ونمط ممارسة الحكم الذي انتهجه الرئيس دونالد ترامب. ويثور في هذا الشأن السؤال عما إذا كانت "الترامبية" ظاهرة مستقلة سوف تستمر بعد ترامب، أم أنها ارتبطت به وسوف تتراجع بعد رحيله من السلطة؟
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي أن ظاهرة "الترامبية" سوف تستمر بعد ترامب، وذلك لأن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي أدى إلى ظهورها لم يكن له علاقة بشخص ترامب، وإنما تبلور منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي وقبل دخول ترامب الحياة السياسية.
إذ أوجدت العولمة وأفكار غُلاة المدافعين عنها، تقلُّصات حادة وتهميشاً لقطاعات وشرائح من المجتمع الأمريكي، وخصوصاً بين سكان المناطق الريفية وعمال الصناعة والبيض الأقل تعليماً، فنمت لديهم مشاعر الغضب والإحباط ومعها نمت أيضاً أفكار اليمين المحافظ وسمو أصحاب اللون الأبيض. وتمثَّل ذلك في بداية القرن الحادي والعشرين في رؤى تيار المحافظين الجدد ومشروع "القرن الأمريكي" الذي دعا إلى ضرورة استعادة الولايات المتحدة لقيادة العالم المستندة إلى القوة العسكرية مُدَّعين أن ذلك فيه خير لأمريكا وللعالم على حدٍ سواء. وتمثَّل أيضاً في "حركة الشاي" التي تبنَّت المطالب التقليدية للتيار المحافظ مثل انتقاد سياسات الدعم للفئات الهشة، والتقليل من تدخُّل الحكومة في الشئون الاجتماعية، وخفض الإنفاق الحكومي. وانتشرت هذه الحركة بين أوساط الحزب الجمهوري ودعمت الجناح المحافظ بداخله. تطورت هذه الأفكار على مدى سنين وظلت تبحث عن السياسي القوي الذي يتبناها، ووجدت ضالتها في شخص دونالد ترامب، وأخذت دَفعة قوية بوجوده على سُدة الحكم.
هذه الأفكار لم تكن وليدة الثلاثين عاماً الماضية وحسب، وإنما كان لها أصول وجذور في التاريخ الأمريكي الذي شهد ظهور حركات شعبوية في القرن التاسع عشر. كان من أهمها، حركة حملت اسماً غريباً وهو "لا أدري شيئاً" Know Nothing Movement التي نشطت خلال الفترة 1849-1860، وانتشرت هذه الحركة بين الأمريكيين البروتستانت، وتبنَّت أفكار تفوُّق البيض على غيرهم من البشر، واتخذت موقفاً معادياً تجاه المهاجرين والكاثوليك.
وانبثق عنها الحزب الأمريكي الذي نجح في الحصول على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي في ولاية ماساتشوستس عام 1854. تلى ذلك حزب جرين باك في عام 1874 والذي تم حله في عام 1884، ثم حزب الشعب في عام 1892 والذي حُل أيضاً في 1908. وكان سبب الحل في المرتين هو معارضة أفكارهما لقيم الديمقراطية الأمريكية، فقد اتَّسمت أفكارهما بالحض على الكراهية، ومعاداة الأجانب والمهاجرين، وسكان الحضر والأقليات الدينية.
ومن خلال هذا التاريخ القديم والمعاصر يُمكن لنا فهم "الترامبية"، وأنها ليست شيئاً جديداً تماماً وإنما تُمثِّل في الحقيقة إحياءً لبعض الأفكار والتقاليد الأمريكية التي تم وضعها جانباً وتهميشها في السابق. واستطاع ترامب توظيفها لحشد ملايين الأمريكيين الذين أسكتت العولمة أصواتهم ولم تراعِ مصالحهم.
فعلى المستوى الفكري، داعب الخطاب السياسي لترامب أوتار القومية والعنصرية والمحافظة لدى هذه الحشود، فأكد أن المستقبل لن يكون لأنصار العولمة وإنما للمدافعين عن القومية ومصالح الدولة. وغازل الجماعات المُدافِعة عن تفوُّق البيض على غيرهم. وأظهر ترامب أيضاً عداءه لمؤسسات الدولة وللنخب التي تديرها واعتبرها مُعوقاً لعمله ولخطته في تغيير الدولة والمجتمع، فوجَّه انتقادات لاذعة لها، وسعى إلى تجاوزها والتواصل المباشر مع الناس. وحظت المؤسسات الإعلامية بنصيبها من تلك الانتقادات، ووصفها بأنها "أعداء الشعب".
وعلى مستوى الممارسة والسلوك، اتبع ترامب سياسات اقتصادية حمائية، وأعاد التفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الحرة التي كانت أمريكا قد انضمت إليها، ووضع قيوداً على هجرة الأجانب إليها، وتهكَّم علناً على نوعية المهاجرين الملونين غير البيض الذين يرغبون في اكتساب جنسيتها. كما اتبع نهجاً شعبوياً مستخدِماً في ذلك مهاراته الخطابية المتميزة، وقدرته على استخدام كلمات وتعبيرات من اللغة الدارجة يُمكن لعامة الناس فهمها والتفاعل معها. واتَّسمت خطاباته بالإثارة والتحريض مــن خــلال مخاطبة العواطف، ودغدغة المشاعر، واستحضار التاريخ بشكل انتقائي وانفعالي.
تُفسِّر لنا هذه العناصر قيام ترامب بالإعلان عن قراراته وآرائه من خلال حسابه على موقع تويتر الذي تابعه 88 مليون مستخدم، وولعه بالخطابة أمام الحشود الشعبية والتي حرص عليها في أحلك ظروف انتشار وباء الكورونا. ونفهم منها أيضاً ما حدث يوم الأربعاء 6 يناير الماضي، ودعوته المتظاهرين للتوجه إلى مبنى الكونجرس وإظهار القوة حتى يتم – وفقاً لتعبيره- "استعادة الحقوق".
سوف يخرج ترامب بالتأكيد من البيت الأبيض خلال أيام، ولكن "الترامبية" سوف تبقى لسنوات بما تخلقه من انقسام سياسي واحتقان اجتماعي، ولعل ذلك ما يشكِّل أول وأهم تحد يواجه الرئيس الجديد جوزيف بايدن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة