قمة ترامب المصغرة مع أفريقيا.. مواجهة نفوذ الصين وروسيا بـ«دبلوماسية الصفقات»

في خطوة مفاجئة تعكس تحوّلاً جذرياً في سياسة الولايات المتحدة تجاه القارة الأفريقية، يستعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لاستقبال 5 رؤساء أفارقة في قمة مصغرة في واشنطن بين 9 و11 يوليو/تموز، تحت شعار تعزيز "الفرص التجارية" و"الشراكات الأمنية".
القمة، رغم محدودية عدد المدعوين، تكتسب أهمية استثنائية في سياق قرارات صادمة اتخذتها إدارة ترامب، منها خفض ميزانية وزارة الخارجية إلى النصف، وإغلاق ست سفارات أمريكية في أفريقيا، ما يطرح تساؤلات كبرى حول حقيقة توجهات واشنطن: هل هي إعادة تموضع براغماتي أم انسحاب تدريجي لصالح الصين وروسيا؟
تحول جذري في السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا
ووفقاً لموقع "أفريكا إنتليجنس" الاستخباراتي الناطق بالفرنسية، فإن التسريبات الإعلامية والتصريحات الرسمية أظهرت أن إدارة ترامب قررت التخلي عن "نموذج المساعدات الإنسانية" لصالح "نموذج استثماري قائم على المصالح المتبادلة".
وهذا التغيير يترافق مع تخفيض ميزانية وزارة الخارجية من 54.4 مليار دولار في 2025 إلى 28.4 مليار دولار فقط في 2026، ما سيؤدي إلى إغلاق 30 بعثة دبلوماسية، منها 6 سفارات في أفريقيا. ويمثل هذا التراجع واحدًا من أكبر تقليصات النفوذ الدبلوماسي الأمريكي في القارة منذ نهاية الحرب الباردة.
عناوين اقتصادية وأهداف استراتيجية
وستعقد القمة في البيت الأبيض بحضور قادة السنغال، موريتانيا، غينيا بيساو، ليبيريا، والغابون.
وبحسب البيت الأبيض، فإن المحادثات ستركز على "الفرص التجارية"، خصوصًا في قطاعات المعادن الاستراتيجية مثل الكوبالت والليثيوم والمعادن الأرضية النادرة التي تحتاجها الصناعات الأمريكية في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجددة. لكن خلف هذا الخطاب الاقتصادي، يرى مراقبون أن واشنطن تحاول مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في تلك الدول.
تعيين يثير الجدل
ووفقاً لموقع "موند أفريك" الفرنسي، فإن تعيين رجل الأعمال اللبناني-النيجيري مسعد بولس كمستشار أول لشؤون أفريقيا أثار استغرابًا واسعًا، نظراً لغياب خبرته الدبلوماسية واعتماده بشكل رئيسي على علاقاته العائلية والتجارية.
بولوس، والد صهر ترامب، يدير فرعاً لشركة سيارات في نيجيريا ويُعرف بقربه من شبكات الأعمال الغربية في غرب أفريقيا، إلا أن تعيينه بدون تصديق من الكونغرس يعكس ما يسميه البعض "دبلوماسية الصفقات"، لا الخبرة أو الكفاءة.
بدوره، قال فرنسوا ميسريه، خبير العلاقات الأفريقية–الأمريكية، مركز الدراسات الجيوسياسية ، في باريس لـ"العين الإخبارية" إن "ما نراه الآن ليس انسحابًا أمريكيًا من أفريقيا، بل هو إعادة تموضع استراتيجية قائمة على تصفية الهياكل غير الفعّالة والتركيز على الملفات ذات العائد المباشر على الاقتصاد الأمريكي.
ورأى ميسريه أن إغلاق السفارات لا يعني بالضرورة نهاية النفوذ، خصوصاً إذا ما عوضته واشنطن بأدوات أكثر مرونة مثل المكاتب التجارية والمستشارين الاقتصاديين المباشرين".
وأضاف:" لكن الخطير في هذا التوجه هو أنه يفقد الولايات المتحدة أدواتها الناعمة التقليدية: الثقافة، التعليم، والمساعدات الإنسانية"، معتبراً أن "هذه الأمور التي كانت لسنوات مصدر قوة واشنطن في أفريقيا ستصبح الآن نقاط ضعف تستغل من قبل موسكو وبكين".
وأشار إلى أن فرنسا خسرت الكثير من قواعد نفوذها في الساحل وغرب أفريقيا، والولايات المتحدة تسعى لملء هذا الفراغ لا عبر دعم الاستقرار بل عبر تأمين سلاسل التوريد لموارد نادرة كالليثيوم والكوبالت".
من جهتها، قالت الدكتورة سيلين لوران، خبيرة شؤون أفريقيا جنوب الصحراء، معهد مونتين للدراسات الاستراتيجية لـ"العين الإخبارية"، إن "هذه القمة تأتي في لحظة دقيقة للغاية: فرنسا تفقد نفوذها بسرعة في غرب ووسط أفريقيا، في حين روسيا تتقدم بدعم عسكري وشراكات أمنية، والصين ترسخ موقعها كأكبر ممول للبنية التحتية".
وأشارت لوران إلى أن إدارة ترامب تحاول كسر الصورة النمطية بأن أمريكا تخلت عن القارة، من خلال رسائل رمزية مثل استقبال القادة الأفارقة، دون أن ترفق ذلك باستراتيجية واضحة وطويلة الأمد".
وتابعت: "السؤال الأهم ليس لماذا دعا ترامب هؤلاء القادة الخمسة بالذات، بل لماذا لم يدع آخرين؟ القائمة تضم دولاً تربطها علاقات تاريخية أو مصالح حيوية بالولايات المتحدة، لكن بعضها (مثل السنغال وليبيريا) مدرج على قائمة الدول التي قد تُمنع من دخول أمريكا مستقبلاً. هذا تناقض يضعف الرسالة السياسية للقمة".
انسحاب أم تكتيك؟
تكشف الوثائق الرسمية أن الإدارة الأمريكية ستعتمد سياسة جديدة تسمى "من الإعانة إلى الجدوى"، حيث ستقيم السفارات بناءً على قدرتها على توقيع اتفاقات تجارية، لا بناءً على نشاطها الثقافي أو التنموي. كما سيتم ربط الدعم السياسي بمؤشرات اقتصادية واضحة، وفقاً لصحيفة "لوموند" الفرنسية.
غير أن هذا التوجه، برأي مراقبين، قد يؤدي إلى فراغ دبلوماسي في عدة مناطق حيوية، لا سيما في ظل صعود دول مثل تركيا والإمارات إلى ساحات كانت تقليدياً ضمن النفوذ الفرنسي أو الأمريكي.
وقال الدكتور باتريك شوفالييه، الباحث في "مؤسسة مونتان"، باريس، ومتخصص في النفوذ الروسي والدبلوماسية البديلة في أفريقيا لـ"العين الإخبارية" :"علينا ألا ننخدع: انسحاب السفارات لا يعني انسحاب النفوذ، موضحاً أن واشنطن تعتمد على أدوات أخرى: الشركات، العقود، الجيوش الخاصة، والشراكات الانتقائية. هذه أدوات تدخل ناعم لكنها فعّالة للغاية".
ويحذر شوفالييه من تقليل شأن تأثير هذه السياسة: "التقشف الدبلوماسي الأمريكي سيفتح فجوات، لكن روسيا والصين مستعدتان لملئها. الروس، خصوصًا بعد 2023، زادوا من عدد السفارات، وخطابهم المعادي للهيمنة الغربية يجد صدى قويًا".
ورأى شوفالييه أن هناك تناقضا مثيرا في السياسات الأمريكية تجاه أفريقيا، موضحاً أن التقييدات الموازية للهجرة ستناقش خلال القمة في ظل نية أمريكية لحظر دخول رعايا 25 دولة أفريقية، من بينها أربع دول مشاركة في القمة نفسها.
تراجع الدور الفرنسي أمام صعود روسيا والصين
وأشار إلى أنه من الملاحظ أن الدول الخمس المدعوة للقمة، باستثناء السنغال وموريتانيا، تنتمي للمجال التقليدي للنفوذ الفرنسي، موضحاً أنه "مع ضعف الدور الفرنسي بعد انقلابات مالي وبوركينا وغينيا، فإن اختيار واشنطن لهذه الدول ليس صدفة، بل إشارة إلى نية في وراثة الدور الفرنسي المنهار".
وأوضح أن فرنسا تعاني من ضعف الرؤية، فبينما تتراجع علاقاتها السياسية والأمنية، لا تملك قدرة على المنافسة الاقتصادية لا مع الصين ولا مع أمريكا، سيطرة فرنسا على غرب أفريقيا انتهت عمليًا. كما أن فرنسا تخسر الأرضية ببطء ولكن بثبات، ومكانها لا يشغله الأمريكيون بل الروس والصينيون.
وأضاف :"من الواضح أن واشنطن بدأت تشبه موسكو في بعض التكتيكات، بتدخل انتقائي، وتحالف مع قادة غير ديمقراطيين، ومقايضة الموارد بالدعم السياسي".
وأشار شوفالييه إلى أنه في المقابل، الصين تمتلك اليوم 53 سفارة في 55 دولة أفريقية، وتستثمر بكثافة في البنية التحتية والمناجم، في حين روسيا تفتح سفارات جديدة في سيراليون، توغو، السودان الجنوبي، وغيرها، مستفيدة من خطاب مناهض للغرب.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI2IA== جزيرة ام اند امز