لم تكن الكتلة البرلمانية التي يقال إنها تتشكل هذه الأيام، هي المتغير المفاجئ الأول الذي يطرأ على المشهد السياسي التونسي قبيل الانتخابات
على الرغم من أن عاماً على وجه التقريب يفصل بيننا وبين انتخابات الرئاسة التي ستجري في تونس العام المقبل، فإن مسافة زمنية كهذه لا تكاد تمثل شيئاً، إذا كان الموضوع متصلاً بانتخابات رئاسية، في بلد يأخذ بالنظام الرئاسي في الحكم، أياً كان نوع هذا النظام. وإذا كان هذا البلد هو تونس فلا يزال يُنظر إليه لدى دوائر متعددة في المنطقة وخارجها، على أنه البلد العربي الوحيد الذي ربما نجح فيه ما لا يزال يُسمى «الربيع العربي»، أو كاد ينجح، بمعايير هي موضع خلاف، أكثر منها محل اتفاق!
وكلما أصبح علينا يوم جديد، بدت الانتخابات تدق الباب في تونس، كأنها ستجري غداً، ثم كأن أطراف العملية السياسة هناك تستعجل قدومها، ليكون لكل طرف منها مقعده الجديد، الذي سيتحدد بالتأكيد بناء على اسم الشخص، الذي سيدخل قصر قرطاج خلال عام مقبل سوف يجيء!
الظاهر أن الطريق إلى كرسي الحكم في تونس العاصمة سوف يمتلئ بكثير من المفاجآت، من هنا إلى موعد بدء السباق، وسوف تكون حركة الشيخ الغنوشي قاسماً مشتركاً أعظم في كل مفاجأة! والظاهر أكثر أنها تُبدي شيئاً مما تريده، ولكنها في المقابل تُخفي أشياء!
ولم تكن الكتلة البرلمانية التي يقال إنها تتشكل هذه الأيام، هي المتغير المفاجئ الأول الذي يطرأ على المشهد السياسي التونسي السابق على الانتخابات، ولن تكون بالقطع آخر المتغيرات. فكلما لاح يوم الاقتراع في الأفق المنظور كلما كان ذلك إيذاناً بمخاضات كثيرة تمر بها الحياة السياسية في بلد شهد، ولا يزال يشهد، درجة من الحيوية في أركانه، تلفت الأنظار على الدوام، وتثير الانتباه، وتجعله يبدو مرشحاً لأن يكون على موعد مع تفاعلات على مستوى قواه السياسية الحية، تتفق وتتسق مع أسبقيته بين ركاب قطار الربيع!
والجديد في الكتلة البرلمانية التي تأخذ مواقعها على الأرض، ليس أنها جاءت بأعضائها من شتى الأحزاب الفاعلة في الملعب السياسي، وغير الفاعلة، بما في ذلك حزب حركة النداء الذي أسسه الرئيس الباجي قائد السبسي، والذي يحكم الآن، تحالفاً مع حركة النهضة الإسلامية. لا ليس هذا هو الجديد؛ ولكن الجديد حقاً يتمثل في أمرين اثنين: أولهما أن هذه الكتلة ستكون حين تستكمل ملامحها، هي الثالثة بعد حركة النداء، وبعد حركة النهضة، من حيث الوزن السياسي في البلد، وبالتالي من حيث القدرة على ترجيح هذه الكفة عند الانتخابات، دون تلك الكفة! والأمر الثاني أنها أعلنت بشكل مبدئي أن أصواتها حين يبدأ السباق الرئاسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 سوف تكون مع يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الحالي، مرشحاً رئاسياً!
فما المعنى في هذا الكلام؟!
المعنى أن الكتلة الجديدة ستكون مع حركة النهضة، التي كثيراً ما توصف من جانب عدد من متابعيها بأنها تمثل «إخوان تونس»، وضدها في الوقت ذاته. وفي لغة أخرى أوضح، ستكون معها في الوقت الحاضر، وضدها في المستقبل!
والأمر بالطبع على هذه الصورة ليس لغزاً يستعصي على الفهم. فهذه الكتلة الجديدة قالت وتقول إنها مع بقاء الشاهد على رأس الحكومة. وهذا بالمناسبة هو ما تقول به «النهضة» بالضبط، خصوصاً خلال الفترة الأخيرة. ثم إن هذا أيضاً يأتي على العكس مما تقول به حركة النداء، ومعها اتحاد الشُغل في تونس، الأقرب إلى التعبير عن العمال، وعن مزاجهم العام، وعن مطالبهم، والذي يمثل قوة عند التصويت في أي انتخابات لا يمكن الاستهانة بها. فلا حركة نداء السبسي تدعم بقاء الشاهد رئيساً للحكومة، في الوقت الحالي، ولا الاتحاد، ولذلك فموقع الكتلة التي لم تتبين ملامحها بالكامل بعد، هو إلى جوار «النهضة» تكتيكياً، إذا جاز التعبير، فإذا انتقلنا من التكتيكي القريب إلى الاستراتيجي البعيد بدا أن بينهما فجوة لا بد من ردمها!
أما الفجوة فهي مسألة ترشيح الشاهد في سباق الرئاسة، ودعم خطواته في طريق القصر، فالكتلة تؤيده في طريقه هذا وتدعمه؛ لكن «النهضة» تقف على النقيض تماماً، وعلى نحو معلن، وواضح، ولا غموض فيه. إنها تشترط لدعم بقائه رئيساً للحكومة، ألا يطرح اسمه في انتخابات الرئاسة. تقول «النهضة» بهذا وتكرره، دون أن تشير إلى الحكمة من وراء مثل هذا الشرط غير المفهوم! وهو غير مفهوم لأنها لم تكشف شيئاً عن السبب الذي يدعوها إلى إبعاد الشاهد عن القصر، ولا قالت شيئاً كذلك عن الحكمة التي تراها هي في اتباع سياسة مع الرجل أقرب ما تكون إلى سياسة الجزرة والعصا. فرئاسة الحكومة إذا كانت هي الجزرة، التي لا تتوقف «النهضة» عن رفعها أمام عين الشاهد، فإن الطريق إلى قصر قرطاج هو العصا التي لا تتوقف أيضاً عن التلويح بها أمامه في الهواء. وكأنها تريد أن تقول على مسمع منه، ما معناه: إذا أردت كرسي رئيس الحكومة فلا تفكر في كرسي السبسي. والعكس صحيح بطبيعة الحال!
والحديث من جانب «النهضة» عن أن الهدف من موقفها هذا من الشاهد، هو الحيلولة دون توظيف منصبه في تحقيق مكاسب سياسية، وقت المعركة الرئاسية، حديث غير مقنع في كل حالاته؛ لأنه مردود عليه بأن هناك وسائل كثيرة لمنع تحقيق مثل هذه المكاسب، وهي وسائل ليس من بينها بالتأكيد، منعه من خوض السباق! فالمنطقي في حالة وجود مخاوف كهذه أن تشترط عليه «النهضة» منذ الآن الاستقالة من منصب رئيس الحكومة، قبل تقديم أوراق ترشحه في سباق الرئاسة!
واللافت جداً إلى هذه اللحظة، أن رئيس الحكومة لم تخرج عنه إشارة من أي نوع، يمكن أن نفهم منها ما إذا كان يوافق على هذا الطرح من جانب حركة النهضة أم أنه يرفضه. لم يحدث، وكل ما صدر عنه في أوقات اشتداد الحملة عليه، وفي مواجهة مطالبات قوية باستقالته، من ناحية «النداء» والاتحاد، أنه كان يعلن رفضه الاستقالة، دون أن يشير إلى طبيعة الحائط الذي يستند إليه ويعتمد عليه في الرفض، وفي التمسك بالرفض! هل هو حائط «النهضة»؟! لم يعلن ذلك من جانبه ولا حتى أشار إليه! هل هو حائط آخر لا نراه؟! من الجائز طبعاً؛ لكنه لم يكشف عن شيء، أي شيء!
ثم إن اللافت أكثر وأكثر، أن «النهضة» وهي تقول برئاسة الحكومة، في مقابل عدم رئاسة الجمهورية، إنما تقوله «بقلب جامد»، وتقوله ببال مُطمَئن، بما يعني ضمناً أن لديها مرشحاً رئاسياً جاهزاً سوف تدعمه وسوف تؤيده، وسوف تعزز موقفه. هي بالطبع لم تعلن عنه، ولا حتى أشارت إليه من بعيد ولا من قريب. فليس من المتصور أن تُبعد الشاهد عن طريق القصر، لمجرد الرغبة في إبعاده دون أن يكون لديها اسم محدد، تريده فرس الرهان في الطريق نفسه!
والظاهر أن الطريق إلى كرسي الحكم في تونس العاصمة، سوف يمتلئ بكثير من المفاجآت، من هنا إلى موعد بدء السباق، وسوف تكون حركة الشيخ الغنوشي قاسماً مشتركاً أعظم في كل مفاجأة! والظاهر أكثر أنها تُبدي شيئاً مما تريده، ولكنها في المقابل تُخفي أشياء!
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة