المكاسب والدلالات.. سفير مصر السابق بأنقرة يقيّم التقارب التركي العربي
قال السفير المصري السابق لدى أنقرة، عبدالرحمن صلاح، إن التقارب العربي_التركي يجعل جميع الأطراف في المنطقة رابحة دون خاسر فيما بينها.
جاء ذلك في حوار مطول أجرته "العين الإخبارية"، تطرق فيه صلاح- وهو آخر سفير مصري لدى أنقرة قبل الأزمة التي وقعت بين الدولتين عقب الإطاحة بنظام الإخوان- إلى استراتيجية تركيا السابقة "صفر أزمات" مع دول المنطقة، والأزمات التي تلت تخليها عن هذه السياسة، وأدخلتها في عزلة إقليمية.
وفي الحوار، رأى السفير المصري السابق الذي خدم في السلك الدبلوماسي لمدة ٤ عقود، أن تغيير السياسات التركية كفيل بعودة العلاقات بين تركيا والدول العربية المؤثرة إلى وضع أفضل مما كانت عليه منذ 10 سنوات.
وتحدث صلاح عن زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، لتركيا، وقال إن هذه الزيارة مؤشر واضح على أن الإمارات اقتنعت بجدية نوايا تركيا في تغيير سياساتها إزاء الدول العربية، كما أنها حافز إضافي لأنقرة لتبني سياسة أكثر مراعاة لمصالح الدول العربية المؤثرة، ولتعاون عربي تركي أكبر لتسوية القضايا الإقليمية الملتهبة.
وإلى نص الحوار:
كيف تقيمون تطور العلاقات بين تركيا ودول المنطقة في الوقت الحالي؟
من الواضح أن القيادة التركية أدركت فشل رهانها على سيطرة الإسلام السياسي على العالم العربي وتحطمت أحلامها في فرض إرادتها بهذه المنطقة على صخرة فشل الإخوان والتخلص من حكمها في مصر وتونس والسودان والمغرب، وتزامن ذلك مع توقف الغرب عن تشجيع النموذج التركي في الشرق الأوسط.
كما عانت تركيا داخليا من تبعات سياساتها الخارجية الفاشلة، فتناقص الاستثمار الأجنبي وتراجع التمويل الدولي أيضا بسبب تراجع الثقة باستقرار النظام السياسي والاقتصادي التركي.
كما يشهد النظام الدولي في الوقت الحالي تحولا من قطبية أمريكية أحادية إلي تعددية للأقطاب، ويبرز دور القوى الإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط مثل مصر والسعودية والإمارات لدعم الاستقرار في المنطقة، وفتح آفاق جديدة للسلام والتعاون بين دولها العربية مثل قطر وغير العربية مثل إسرائيل وإيران لتسوية النزاعات الإقليمية ومكافحة الإرهاب ومواجهة محاولات زعزعة الاستقرار في دول المنطقة.
وهكذا شعرت القيادة التركية بالحاجة إلى تغيير مسار سياساتها التي اتبعتها منذ عام 2011، والتي أدت إلى عزلتها إقليميا ودوليا.
في المقابل، حافظت مصر على العلاقات الاقتصادية والتجارية مع تركيا دون مساس، وامتنعت عن محاولة التدخل في الشأن التركي الداخلي، ولكنها رسمت خطا أحمر للتدخل العسكري التركي قرب حدودها في ليبيا.
وبعدها، استجابت القاهرة لطلب تركيا إجراء حوارات استكشافية أحرزت بعض التقدم الجزئي والبطيء نحو وقف استضافة تركيا لنشاطات معادية لأمن واستقرار مصر، وبدء سحب المليشيات الإرهابية والقوات التي نشرتها تركيا في دول عربية مثل ليبيا وسوريا والعراق. وسعت تركيا لحوار مماثل مع كل من السعودية والإمارات التي تتفق مع مصر حول الأهداف التي يجب أن تتحقق من مثل هذا الحوار.
وخلال الفترة الماضية، دأبت السياسة المصرية على حماية وتشجيع الاستثمارات التركية في مصر، وعدم التمييز ضدها رغم كل الإساءات والسياسات العدائية للحكومة التركية ضد مصر. وعاد الميزان التجاري عام 2019 إلى نفس مستواه عام 2013، وتجاوزت قيمته عام 2020 خمسة مليارات دولار أمريكي. وكذلك فعلت كل من الإمارات التي تخطت تجارتها مع تركيا حاجز الـ8 مليارات دولار والسعودية (5 مليارات) وإسرائيل (6 مليارات)، ويمكن مضاعفة هذه الأرقام بسهولة إذا ما صدقت النوايا وصدقتها السياسات والأفعال.
ذكرتم أن الغرب تراجع عن تشجيع النظام التركي في الشرق الأوسط.. لماذا هذا التغيير؟
انتهى تشجيع الغرب بسبب لجوء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لابتزاز أوروبا بورقة اللاجئين وتحول تركيا من أدوات القوة الناعمة الاقتصادية والثقافية إلى التدخل العسكري في ٣ دول عربية (سوريا والعراق وليبيا) وتهديد التعاون والاستقرار في شرق المتوسط، بما يهدد بنشوب حرب بين دول حلف شمال الأطلسي الذي تتمتع تركيا بعضويته في نفس الوقت الذي تعقد فيه صفقات مع روسيا.
ومن ثم، بدأت الولايات المتحدة والدول الغربية في طرح الأسئلة، عما إذا كانت تركيا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين هي نفسها التي كانوا يعدونها قبل ذلك نموذجاً يٌحتذى للديمقراطية العلمانية الساعية لحل كل مشاكلها مع جيرانها بالحوار والطرق السلمية، واستخدام أدوات القوة الناعمة من تجارة واستثمارات وهجرة وتكنولوجيا وثقافة.
إذا كان الأمر كذلك، هل المرحلة الحالية بين تركيا والدول العربية تجاوزت "جس النبض" إلى التطبيع؟
يتوقف ذلك على إثبات جدية الجانب التركي في التغيير والابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية العربية، وحينها تعود مشروعات التعاون الاقتصادي والثقافي العربية-التركية إلى الازدهار كما كانت قبل عام 2011، بل تتجاوزها إلى آفاق جديدة تتلاءم مع التغيرات الإقليمية والدولية.
ما تصوركم لإجراءات كسب الثقة بين تركيا والدول الإقليمية الكبرى؟
يمكن أن يبدأ الجانب التركي بخطوات هامة لسحب المليشيات من ليبيا للمساعدة في إجراء الانتخابات هناك في أجواء أقل توترا. في المقابل يمكن للدول العربية الثلاث (مصر والسعودية والإمارات) الموافقة على خطوات متزايدة لتطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية والتي يمكن أن تبدأ بمشروعات مشتركة وصفقات تجارية جديدة تعود فائدتها على جميع الأطراف. كما يمكن أن يعقب ذلك عودة السفراء.
وهنا لا بد أن أنصح وسائل الإعلام ألا تقع في فخ ترديد شائعات مغرضة بأن خطوات التطبيع بين أي من الدول العربية وتركيا سوف تضر أو تكون على حساب دول عربية أخرى، ولعل أحداث السنوات الثمان الماضية، أثبتت أهمية التنسيق والتلاحم العربي وخاصة بين مصر والإمارات والسعودية.
هل تعتقدون أن أنقرة ستقدم مزيدا من الخطوات التصحيحية خلال الفترة المقبلة؟
يتوقف الأمر على موازنة القيادة التركية بين الاعتبارات السياسية المحلية وبين مصالح الشعب التركي الاستراتيجية، فإذا اتخذت تركيا خطوات واضحة تشير إلى توقفها عن دعم جماعات الإسلام السياسي داخل العديد من الدول العربية وأبدت تجاوبا مع الجهود العربية لتسوية الصراعات في ليبيا وسوريا، فإنني أتوقع أن يتجاوز التعاون العربي التركي مجال العلاقات الثنائية وأن يمتد إلى مشروعات إقليمية تستفيد منها تركيا ودول عربية وأخرى غير عربية أيضا.
هل تعتقدون أن أنقرة بدأت في العودة لسياستها "تصفير المشكلات"؟
أسفر التحول التركي من سياسة تصفير المشاكل وتنمية التجارة والاستثمار إلي التدخل العسكري، عن عزلة دولية تركية ظهرت ملامحها مبكرا في الفشل الذريع الذي منيت به أنقرة في الحصول على عضوية مجلس الأمن عام 2014 وإجماع الدول الأوروبية على رفض الموقف التركي من التنقيب على الغاز في شرق المتوسط، والرفض الدولي للسياسة التركية المؤيدة لبعض الجماعات المسلحة في سوريا وليبيا.
وقبل عام 2011، كان هناك تعاون سياسي واستراتيجي بين تركيا وكل الدول العربية بدون استثناء. وشهد العقد الأول من حكم حزب الحرية والعدالة (2002-2012) تكاملا اقتصاديا وتفاعلا ثقافيا وسياحيا متزايدا بين العرب وتركيا.
ولم تبدأ الفرقة وتدهور العلاقات إلا عندما اختارت القيادة التركية تغليب مصالح جماعة الإخوان على العلاقات والمصالح المشتركة التركية مع كبرى الدول العربية، وما زلت أعتقد أن تغيير تلك السياسات التركية كفيل بعودة العلاقات بين تركيا والدول العربية المؤثرة إلى أفضل مما كانت عليه منذ عشر سنوات.
ماذا عن مستقبل التنسيق الأمني بين أنقرة والدول الإقليمية الكبرى، خاصة تسليم عدد من المطلوبين على ذمة قضايا إرهاب؟
تركيا لديها قوائم بمن صدرت ضدهم أحكام جنائية نهائية في مصر على خلفية جرائم متعلقة بالإرهاب والقتل والاعتداء على الأرواح والممتلكات، كما أن القيادة التركية تدرك جيدا أن الإخوان هي في الوقت الحالي جماعة إرهابية محظورة النشاط في كل من مصر والإمارات والسعودية.
وإذا أرادت تركيا تطبيع علاقاتها مع الدول الثلاثة فإنها لا يجب أن تأوي أولئك الذين صدرت بحقهم تلك الأحكام النهائية كما لا يجب أن تستضيف أنشطة للجماعة المحظورة ضد أي من الدول العربية. ولا بد من تذكير القيادة التركية بأنها تطالب دائما دول جوارها والدول الأوروبية بعدم استضافة منظمات تتهمها بأنها إرهابية رغم عدم صدور أحكام نهائية ضدها، وهو ما انتقدته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تشغل أنقرة عضويتها.
ما قراءتكم لجهود الدبلوماسية الإماراتية في فتح آفاق جديدة في العلاقات بين أنقرة ودول الجوار؟
التحرك الدبلوماسي الإماراتي تجاه الحوار مع تركيا من خلال زيارة كبار المسؤولين الإماراتيين لأنقرة، بمثابة استجابة مباشرة لما أبدته القيادة التركية من رغبة في تطبيع علاقاتها مع الدول المؤثرة في العالم العربي وبدء الحوار الاستكشافي مع مصر. وأري أن مثل هذه الحوارات العربية التركية إذا ما أُحسِن تنسيقها يمكن أن تؤدي إلى تغيير بناء في السياسة التركية إزاء القضايا العربية مثل ليبيا وسوريا والعراق،
وفي المقابل، تفتح هذه الحوارات آفاقا واسعة أمام التعاون العربي مع تركيا كأحد القوى الإقليمية غير العربية المؤثرة والتي يمكن أن تمثل مواقفها والتعاون معها رصيدا داعما للموقف العربي المشترك تجاه بعض القضايا غير الخلافية.
في رأيكم.. ما دلالات زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي لتركيا؟
هذه الزيارة مؤشر واضح على أن الإمارات اقتنعت بجدية النوايا التركية في تغيير سياساتها إزاء الدول العربية وتمثل حافزا إضافيا لتركيا للتخلي عن سياسات العقد المنصرم واتباع سياسة أكثر مراعاة لمصالح الدول العربية المؤثرة ولتعاون عربي تركي أكبر لتسوية القضايا الإقليمية الملتهبة مثل سوريا وليبيا. ونأمل أن تؤدي أيضا إلى وقف أي نشاطات لجماعات الإسلام السياسي علي الأراضي التركية.
وما تأثير الزيارة على مستقبل العلاقات بين الإمارات وتركيا؟
إذا ما صدقت النوايا التركية في تغيير توجهاتها فسوف يفتح ذلك الباب أمام المزيد من الاستثمارات الإماراتية في تركيا، والتي تراجعت خلال السنوات الثماني الأخيرة.
ولكن من الخاسر من هذا التقارب والتهدئة في المنطقة؟
أرى أن جميع دول المنطقة يمكنها أن تستفيد من هذا التعاون الذي يمكن أن يسهم أيضا في تحقيق تسوية سياسية لمشاكل وصراعات تدور على أراض عربية مثل سوريا وليبيا. والخاسر الوحيد من مثل هذا التقارب العربي التركي -إذا ما اكتمل تحقيقه- هي قوى التطرف والإرهاب من أنصار الإسلام السياسي.
كيف ترون الدعوات العربية المتزايدة لعودة سوريا للبيت العربي؟
لعل الوقت حان لعودة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية وبدء حوار لتصفية الأجواء العربية مع الحكومة السورية والاتفاق على دور عربي في جهود التوصل لتسوية سياسية في سوريا، وبعد ذلك في جهود إعادة بناء ما خربته الحرب.