أردوغان يعرف جيدا أن مطالب حليفه الحزب القومي لن تنتهي والتشدد أكثر في الملفات السورية والعراقية والقبرصية والعلاقة مع اليونان وأوروبا.
لم يمنح الناخب التركي "حزب العدالة والتنمية" ما كان يطمح إليه في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، وقرر أن يتركه تحت تأثير علاقته بحليفه "حزب الحركة القومية" وأكثر من عامل سياسي وحزبي في الحقبة المقبلة، فهو لم يحصل على الأغلبية المطلوبة بمفرده في البرلمان (301 مقعد)، فكان ملزما بالحصول على دعم شريكه الصغير (بنسبة 7% على أقل تقدير)، وبالمقارنة مع نسبة أصواته في البرلمان "42%" ليتمكن من تحقيق الفوز في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية.
مشكلة "العدالة" الثانية التي لا يمكن إغفالها على ضوء نتائج الانتخابات أيضا بروز العديد من التحليلات التركية التي تتحدث عن بقاء حوالي 60% من ناخبي الحزب متمسكين بدعم قياداتهم، مقابل شعور ما بين 30 إلى 40% من قواعده بالاستياء والغبن والقلق حيال سياسات ومواقف الحزب، هذا إلى جانب وجود مجموعة حزبية تصل إلى 10% صوتت لأردوغان لكنها لم تصوت للحزب لإيصال رسائلهم الاعتراضية على ما يجري.
هناك حقيقة أخرى وهي وجود 28 مليون ناخب لم يصوتوا للعدالة والتنمية، بينهم 5 ملايين دعموا حزب "ايي"، الذي سيتحرك في البرلمان مع مجموعة تضم 43 مقعدا، وحزب "الشعوب الديمقراطية" المحسوب على الأكراد ويدخل البرلمان بنسبة حوالي 12% و67 مقعدا
صحيح أن "العدالة" نجح في نقل المعركة الانتخابية من ورطة الاقتصاد وتراجع سعر صرف الليرة والبطالة والغلاء إلى ميدان مواجهة المتآمرين على تركيا اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، لكنه لم ينجح في تجاوز معضلة الصوت الكردي الذي دعمه في جنوب شرق تركيا والمدن الكبرى كرهان رابح يوقف الصعود القومي المتشدد في التعامل مع المسألة الكردية في البلاد. فهل يعطي حزب العدالة هذه الضمانة لداعميه الأكراد عندما يدخل النظام الرئاسي حيز التنفيذ اعتبارا من منتصف الشهر الحالي؟ وهل سيسمح له شريكه القومي اليميني بذلك؟
بعد أيام من فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية جديدة مدتها 5 سنوات، قال وزير الداخلية التركي إنه أعطى أوامره بمنع مسؤولين محليين من "حزب الشعب الجمهوري"، أكبر أحزاب المعارضة، من التواجد في الصفوف الأـمامية أثناء مراسم تشييع جنود شاركوا في العمليات الحربية ضد مجموعات "حزب العمال"، بسبب مواقف حزب كمال كيليشدار أوغلو من العمليات العسكرية داخل تركيا وخارجها، لكن هناك ما هو أهم وأبعد من ذلك في صفوف الائتلاف الحاكم فدولت بهشلي، رئيس حزب الحركة القومية، يقول إن الناخب التركي جعل الحركة القومية حزبا محوريا في البرلمان التركي، كما منحه مهمة تحقيق التوازن والمراقبة، وبذلك حمّله مسؤولية مهمة.
رسائل مساعده في الحزب سفر آيجان جاءت أكثر مجاهرة "من الآن فصاعدا لن يحدث إلا ما نقرره نحن.. حزب الحركة القومية حزب مفصلي، وبعد الآن هو من سيدير العملية السياسية".
باختصار أكثر إذا ما تحول الدعم اليميني القومي لحكومة العدالة والتنمية إلى ائتلاف حزبي فسيكون له متطلباته وكلفته السياسية، وتعديل في مواقف وقرارات الحزب الحاكم التي ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ما يقوله ويريده شريكه الصغير.
سياسة
مشكلة "تحالف الجمهور" في الحكم لن تكون أيضا مع حزب الشعب اليساري الأتاتوركي الذي سيقود المعارضة في السنوات الخمس المقبلة، بل مع حزب الشعوب الديمقراطية المدعوم كرديا، والذي نجح في تخطي العتبة الانتخابية المطلوبة وهي 10% من مجموع الأصوات لأكثر من سبب: وجود الرئيس المشارك للحزب صلاح الدين دميرتاش داخل السجن منذ أشهر طويلة، واحتمال مواصلة الحملات من الداخل والخارج للمطالبة بالإفراج عنه، ثم تحول حزب الشعوب إلى ثاني أكبر حزب معارض في البرلمان التركي بعد حزب الشعب الجمهوري، إلى جانب مسألة أنه يحمل معه إلى البرلمان 4 أحزاب ومنصات سياسية وعقائدية يسارية ماركسية متشددة لا يعرف أحدا كيف ستتحرك تحت سقف المجلس النيابي في الأيام المقبلة.
أردوغان يعرف جيدا أن مطالب حليفه الحزب القومي لن تنتهي، وفي مقدمتها إصدار العفو الجزئي عن المحكومين في السجون، والتشدد أكثر في الملفات السورية والعراقية والقبرصية والعلاقة مع اليونان وأوروبا، لذلك هو سيكون عاجلا أو آجلا أمام خيارين، إما الاستمرار في البحث عن دعم حزب الحركة القومية في كل مرة يريد فيها استصدار قانون من البرلمان، أو استخدام صلاحياته في ظل النظام الجديد عبر المراسيم الرئاسية، لكن أردوغان يعد نفسه حتما لاحتمالات أخرى ستناقش في الأشهر المقبلة في حال توترت العلاقات بين الشريكين في الحكم، وعندها ستكون خيارات حزب العدالة شبه محدودة إما إعطاء شريكه اليميني ما يريد أو أن يبحث هو عن كسب دعم أحزاب صغيرة في المعارضة، وهي مسألة في غاية الصعوبة لن يكون بديلها سوى قبول الخيار الوحيد المتبقي، وهو حل البرلمان وتنحي الرئيس والذهاب نحو انتخابات مبكرة مرة أخرى.
ما الذي تقوله وتفعله أحزاب المعارضة التركية في هذه الأثناء؟
هل ستتمكن من التوحد داخل البرلمان بعدما فشلت في ذلك أثناء البحث عن مرشح مشترك تدعمه في الانتخابات الرئاسية وإصرار "حزب ايي" اليميني على استبعاد "حزب الشعوب الديمقراطية" عن التحالفات البرلمانية؟
استطاع محرم إينجه مرشح "تكتل الأمة" المعارض أن يحصل على نسبة 30% من مجموع الأصوات في الانتخابات الرئاسية، وهو انتصار كبير للمعارضة التركية بعد مرور 40 عاما على أهم انتصار لها حققته مع الزعيم اليساري بولنت أجاويد في عام 1977، لكن عامل إينجه، منافس أردوغان الرئيسي، الذي نجح في تحشيد الملايين وبث الحياة في المعارضة لا يمكن أن يشكل لوحده الثقل السياسي القادر على توحيد صفوف المعارضة المشتتة حتى ولو تحول إلى بارقة أمل للبعض، إينجه أيضا لا يعرف ما الذي يريده بعد، كما يبدو انتزاع رئاسة حزب الشعب الجمهوري من كيليشدار أوغلو أو التريث والاستعداد للانتخابات المحلية في مارس/آذار المقبل في محاولة لانتزاع بلدية إسطنبول من حزب العدالة.
هناك حقيقة أخرى، وهي وجود 28 مليون ناخب لم يصوتوا للعدالة والتنمية بينهم 5 ملايين دعموا حزب "ايي" الذي سيتحرك في البرلمان مع مجموعة تضم 43 مقعدا، وحزب "الشعوب الديمقراطية" المحسوب على الأكراد ويدخل البرلمان بنسبة حوالي 12% و67 مقعدا.
الغامض أيضا حتى الآن هو طريقة تعامل حزبي "ايي" اليميني القومي وحزب "الشعوب الديمقراطية" المدعوم بغالبية كردية مع بعضهما البعض داخل البرلمان أولا ومع حزب الشعب الجمهوري، وأية عملية تنسيق ستكون بعد جهوده التي بذلها من أجل دخولهما البرلمان إلى جانبه ثانيا!
صحيح أن حزب ميرال اكشنار، "ايي بارتي" المنشق عن حزب الحركة القومية، هو الحزب الصاعد في الحياة السياسية التركية، بعد حصوله على 10% من مجموع أصوات الناخبين، لكن هذا لا يعني إطلاقا أن صعوده سيتواصل، خصوصا إذا استمر في تصلبه وابتعاده عن بقية قوى المعارضة التركية وما تقول، وظل يغرد خارج السرب.
صحيح أيضا أن "موجة العمق" التي تحدث عنها كرم الله أوغلو رئيس "حزب السعادة" الإسلامي المعارض ذهبت وبعكس ما تشتهي المعارضة لصالح حزب الحركة القومية، الذي نجح في حماية حصته في البرلمان بنسبة 11.5% من مجموع الأصوات، لكن الصحيح كذلك هو أنه لا أحد يعرف كيف سيكون المشهد في البرلمان التركي بعد انتهاء ما وصفه البعض بالحفل التنكري وبداية عملية الكشف عن الوجوه الحقيقية للكثير من المرشحين الذين نجحوا في دخول البرلمان بانتماءاتهم العقائدية والحزبية.
قرار قيادات حزب العدالة الأخير بتقريب تاريخ المؤتمر العام للحزب يعني أولا أنه يريد أن يستعد باكرا للانتخابات المحلية المقررة بعد 9 أشهر، فهو لا يريد وقوع مفاجآت تعرقل مسار عملية تغيير شكل النظام، وهو يريد اصطياد المعارضة مرة أخرى في ثباتها ووسط تفككها وتشرذمها.
باختصار أكثر.. حالة المعارضة التركية ينطبق عليها اليوم المثل الذي يقول "لا توجه الرياح قائد السفينة الذي لا يعرف بأي اتجاه يذهب". فالمعارضة التركية تملك القدرة والفرص والرياح جاهزة لدفع السفينة لكنها تعاني من فقدان الربان وطاقمه الذي يقود وسط هذا التخبط، لا بل هي تعاني من مشكلة التفريط بالفرص السانحة، مما يعني أن مهمتها ستزداد صعوبة في الأشهر المقبلة حتى ولو قال كمال كيليشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري "دمرنا جزءا كبيرا من الحاجز الموضوع أمامنا وسنزيل ما تبقى في الحقبة القادمة".
7 انتخابات خلال 8 سنوات جرت في تركيا، ومع ذلك فلا حظوظ كثيرة لأحزاب المعارضة في الوصول إلى السلطة، مشكلة المعارضة ليست توحد حزب العدالة والحركة القومية في الانتخابات الأخيرة، بل عدم توحيد صفوفها هي أولا ثم فشلها في طرح المشاريع السياسية والإنمائية القادرة على استقطاب الناخب التركي ثانيا.
المعارضة التركية تدرك جيدا أن الوقت أمامها يضيق، وأن حزب العدالة ذاهب نحو مأسسة التحول السياسي والدستوري في إطار النظام الرئاسي الجديد، حيث ستصعب مهمتها وتتعقد أكثر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة