تلقت تركيا ضربة موجعة مع القرارات الدستورية الحاسمة والجريئة، التي اتخذها الرئيس التونسي، قيس سعيّد، لإنقاذ بلاده.
وبموجب هذه القرارات الدستورية، أطاح "سعيد" بالحكومة والبرلمان، اللذين كانا يخضعانِ بشكلٍ شبه كامل لنفوذ حركة "النهضة" الإخوانية، حليفة تركيا، ما يعني خسارة أنقرة لموقعٍ استراتيجي جديد، كانت قد كوّنت فيه نواة تمددها في العالم العربي.
وتتمثل خسارة أنقرة الأولى من هذه التطورات المفاجئة، بفقدانها لبلد كان الأول في انطلاق احتجاجات ما سُمي بـ"الربيع العربي"، الذي مهّد وأسهم في وصول جماعة "الإخوان" إلى المشاركة في حكم تونس لاحقاً والسيطرة عليها قبل أكثر من عقدٍ من الزمن، وهي خسارة رمزية وشعبية تعني تراجع مشروع تركيا التوسعي في المنطقة، لكن الخسارة الثانية هي الأقسى على الجانب التركي، إذ لم تعد الطريق سالكة من تونس إلى ليبيا بعدما كانت تستخدم أنقرة الحدود التونسيةـالليبية، كمعبّرٍ لإرسال الأسلحة إلى ليبيا وتمويهها على هيئة مساعداتٍ إنسانية.
إضافة إلى ذلك، فإن اتفاقيات تركيا العسكرية المبرمة مع تونس ستكون مهددة بعد إقالة حكومة الإخوان وتجميد برلمانها، الذي يرتبط رئيسه راشد الغنّوشي، الذي يتزعم حركة "النهضة"، بصلاتٍ شخصية وثيقة مع الرئيس التركي.
الخسارة التركية الثالثة ستكون الأشد تأثيراً على أنقرة، ذلك أن اتفاقية "التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار بين تونس وتركيا" معرضة للإلغاء رغم أن البرلمان المجمّد كان قد أقرّها قبل أكثر من عام، ويعود طرحها في الأساس لعام 2016 وتمنح المواطنين الأتراك، كأصحاب مؤسسات وأفراد، حق تملك الأراضي الزراعية في تونس، إلى جانب أن هذه الاتفاقية تتيح لهم أيضاً حق التملك والاقتراض من البنوك المحلية التونسية.
هذا التدخل الاقتصادي التركي، الذي ضاعف حجم الصادرات التركية إلى تونس من 200 مليون دولار عام 2010 إلى أكثر من 4 مليارات دولار خلال عام 2019، بات مهدداً اليوم بعد قرارات "سعيّد" مؤخراً.
كذلك القروض، التي منحتها أنقرة لتونس، أيضاً مهددة، وكان عدد لا بأس به من النواب التونسيين يرفضون ما أسموه "الغزو التركي لبلادهم اقتصادياً"، باعتبار أن أنقرة كانت تهدف من خلال تلك القروض إلى إرغام تونس على اتفاقياتٍ أخرى لاحقاً بذريعة القروض المتراكمة عليها.
ورغم أن قرارات الرئيس التونسي، التي استند فيها إلى الفصل 80 من دستور بلاده، حظيت بإجماعٍ دولي، حين تولى السلطة التنفيذية مطلع الأسبوع الجاري، بإقالته رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميده سلطات البرلمان، الذي يقوده راشد الغنّوشي، فإن الرئاسة التركية وحدها رأت في تلك الخطوات الضرورية لإخراج تونس من أزماتها "انقلاباً" على حليفها "الغنوشي"، وأبدت رفضها التام لكل ما يجري في تونس، رغم أن "سعيّد" أقدم على كل ذلك في يومٍ شهدت فيه البلاد تظاهراتٍ ضخمة رافضة لهيمنة "الإخوان" على الحكومة والبرلمان.
ومع أن حركة "النهضة" هددت بتحريك المجتمع التونسي ضد القرارات المصيرية، التي اتخذها "سعيّد"، فإن ما جرى على أرض الواقع أظهر إفلاسها شعبياً، حتى أن الصور والفيديوهات التي بثتها كبرى وكالات الأنباء والفضائيات الإخبارية بيّنت هشاشة الحركة مقابل تمسك التونسيين برئيسهم، فقد كان عدد مناصري الأخير، الذين احتفلوا في الشوارع وافترشوا ساحات المدن التونسية، أكبر بكثير من أولئك المعترضين الذين حرّضوا ضد "سعيّد"، علماً بأن ما أقدم عليه كان فعلاً دستّورياً ولم يكن انقلاباً، بل ولاقى قبولاً كبيراً في المجتمع الدولي، باستثناء أنقرة وحليفها الوحيد في الداخل التونسي.
كذلك يمكن وصف تهديدات "النهضة" على أنها فشل في الاستمرار بحكم تونس، حيث لم يعد أمامها سوى التلويح بورقة الحرب الأهلية، وهو أمرٌ أشار إليه "الغنّوشي" حرفياً في أحد تصريحاته لوكالة "رويترز"، بعد قرارات الرئيس التونسي، لكن الدخول في مثل هذه الحرب غير ممكن، خاصة مع حجم الدعم الشعبي الكبير لرئيس البلاد، إضافة إلى التزامه التام بالدستور، وبالتالي لم يكن لدى "النهضة" أي خيار سوى تصدير "الكلام" عبر شاشات التلفزة والاستنجاد بتركيا، رغم أن كل هذا الاعتراض لن يغير من الواقع شيئاً.
رفض "الغنّوشي" وحركته لإصلاحات الرئيس التونسي يعني رفضه للدستور، ويوحي كذلك بنيته في تفرد حركته بالسلطة في تونس إلى أجل غير مسمى، لكن هذه الرغبة باتت من الماضي الآن، وأمام تونس اليوم مرحلة جديدة خالية من "الإخوان" وسطوتهم على مؤسسات الدولة، وفي كل هذا بالطبع خسارة لتركيا ومكاسب لتونس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة